فصل: أدوات النصب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.الفصل الثاني: المعجم اللُّغوي للآية ثم رؤية بيانية لهُ:

تعددت الأساليب داخل الآية وتفاعلت عناصرها لتكوِّن في النهاية هذه اللوحة الكاملة، ولكي تقرأ اللوحة كاملة، ويستشف مقصودها الأعظم، وهدفها الأعلى، كان لابد من تتبع هذه الخيوط المتشابكة، ومعرفة أعدادها، وتفاعلاتها، وعلاقاتها المتداخلة؛ ليُتوصل في الختام إلى رؤية واضحة يمكن من خلالها القول بأن هذه الصورة يقصد بها كذا... أو كذا.
ولذلك كان من فريضة البيان الأولى إحصاء عدد الخيوط، وأنواعها في الآية، وها هي تي:

.أسلوب الشرط:

بلغ عدد أساليب الشرط في الآية ستة؛ وهي على التوالي كما يلى:
1- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ}.
2- {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْل}.
3- {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}.
4- {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا}.
5- {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}.
6- {وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ}.
هذا، وهناك أساليب شرط مفهومة من سياق الآية؛ لكنها ليست محكومة بأدواته المعروفة، ومن هذه الأساليب- على سبيل المثال قوله تعالى: {أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى}؛ حيث يفهم منه: إذا ضلت إحداهما فلتذكرها الأخرى، وهذا النوع سيكشف عنه التحليل في حينه.

.أساليب الأمر:

لأسلوب الأمر صورتان صريحتان وهما: افعل ولتفعل، وقد ورد في الآية منها تسعة أساليب هي على الترتيب كما يلي:
1- {فاكتبوه}.
2- {وليكتب بينكم كاتب بالعدل}.
3- {فليكتب}.
4- {وليملل الذي عليه الحق}.
5- {وليتق الله ربه}.
6- {فليملل وليه بالعدل}.
7- {واستشهدوا شهيدين من رجالكم}.
8- {وأشهدوا إذا تبايعتم}.
9- {واتقوا الله}.
ولا يعني هذا انحصار الأمر في هاتين الصورتين، بل قد يفهم الأمر في صور أخرى، لكنها ليست نصًا في الأمر؛ لأن الأمر فيها مأخوذ من السياق والمقام والغرض العام...إلى آخر ذلك من العوامل المساعدة على فهم الأمر.

.أساليب النهي:

ليس لأساليب النهي في لغة الضاد إلا صيغة واحدة صريحة، وهي لا تفعل، أو لا الداخلة عل المضارع، لكن قد يفهم النهي أيضًا من إدخال مادة نهى وما في معناها على الكلام، وقد جاء ذلك في القرآن الكريم؛ نحو قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]، ونحو: {وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء:171].
ونحو: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة:9]، ونحو: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ} [المائدة:3].
وما سوى ذلك من النهي قد يفهم من مضمون الكلام.
وقد جاء في الآية خمسة أساليب نهي صريحة، وهي كما يلي:
1- {وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ}.
2- {وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا}.
3- {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا}.
4- {وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ}.
5- {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} [البقرة:282].
هذا، بالإضافة إلى أساليب أخرى فاعلة، لكنها تخدم ما سبق من أمر ونهي وشرط، ومن تلك الأساليب مثلًا:
أسلوب النداء في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} الآية.
وأسلوب التفضيل في قوله تعالى: {ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا}.
وأسلوب الاستثناء في نحو: {إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم}.
وأساليب بلاغية:
كالتشبيه، كما في قوله تعالى: {ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله}.
ووضع الظاهر موضع المضمر، كما في قوله تعالى: {أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى}، وقوله: {واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم}.
وأسلوب الحذف، نحو: {وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم}.
وهكذا تتعدد الأساليب، لكنها جميعًا محكومة بهذه الثلاثة، وداخلة في إطارها، وخادمة لمضمونها؛ فالشرط والأمر والنهي أساليب تفرض هيمنتها على الآية، من أولها إلى آخرها، وسوف يتبين وجه ذلك لاحقًا، إن شاء الله تعالى.

.الأدوات:

.حروف الجر:

تعددت حروف الجر في الآية؛ حيث ورد فيها:
الباء- إلى- الكاف- من- اللام.
وهي على النحو التالى:
الباء: خمس مرات.
إلى: مرتان.
الكاف: مرة واحدة.
من: أربع مرات.
اللام: مرة واحدة.
والمجموع ثلاثة عشر حرف جر.

.أدوات النصب:

وهي إما ناصبة للمضارع، وقد وردت سبع مرات أنْ.
أو حرفًا ناسخا، وقد جاء مرة واحدة إنَّ.

.الأفعال الناسخة:

وقد ورد منها أربعة أفعال، جاءت على هذا الترتيب:
1- {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا}.
2- {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ}.
3- {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ}.
4- {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا}.

.أدوات الشرط:

وقد ورد منها أداتان فقط، وهما إنْ- إذا، وكل منهما كرر ثلاث مرات.
أما إذا ففي:
1- {إذا تداينتم}.
2- {ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا}.
3- {وأشهدوا إذا تبايعتم}.
وأما إنْ ففي:
1- {فإن كان الذي عليه الحق سفيها}.
2- {فإن لم يكونا رجلين}.
3- {وإن لم تفعلوا فإنه فسوق بكم}.

.حروف العطف:

وقد ورد منها ثلاثة أنواع:
الواو: وجاءت سبع عشرة مرة.
الفاء: وجاءت ست مرات.
أو: وجاءت ثلاث مرات.
الأفعال:
وقد ورد منها تسعة وعشرون فعلًا، منها اثنان وعشرون فعلًا معربًا، وستة أفعال مبنية، منها ثلاثة مبنية، وثلاثة أفعال أمر.

.الأسماء الموصولة:

وقد ورد منها: الذين- الذي- مَنْ.

.رؤية بيانية لهذا المعجم:

بعد حصر هذه اللبنات تبين بجلاء شيوع بعضها، وقلة البعض الآخر، والفريضة التي أراها في الدرس البلاغي التحليلي هي النظر في وجه البيان خلف ما أشيع، وقلة ما ندر؛ ذاك لأن اليقين- الذي لا محيد عنه- أن الخالق الكريم أحكم هذا الكتاب الكريم، وقد قال سبحانه: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1].
فكل حرف مضبوط بضوابط تسير في فلك المراد، وتتواءم مع المقصود.
ومن هنا يلحظ ما يلي:
كثرة الأمر، والنهي، والشرط، حتى كادت الآية تُحصر بينهم، وهذه الأساليب- بلا شك- قيود وعوائق تقف في وجه هذا النوع من التعامل بين المؤمنين، وكأن الآية تقول لا ينبغي إتمام هذا الأمر إلا بعد تحقيق هذه الضوابط، فإن اختل منها شيء خرجت- حينئذٍ- تلك المعاملة عن منهج الله المرسوم، وأدى ذلك إلى خلاف وشقاق لانهاية له.
وإذا كان الأصل في المعاملات الإباحة مالم يرد الدليل بخلاف ذلك، فإن التعامل بالدين، وهو مباح شرعًا أحيط بسياج من المحاذير أوامر، ونواهٍ، وشروط التي تحدُّ من شيوع هذا التعامل؛ لأن طريق الدين وعر، صعب، والزلل فيه كثير، فقد يؤدي إلى الربا، وقد يؤدي إلى الخلاف والشقاق بين الناس.
إن القيود لا توضع إلا عند استشعار الخطر، كما توضع علامات المرور في الطريق لتشير إلى الحذر، ولما كانت الديون تترك في النفوس حرجًا، وتؤدي إلى ما يغضب الله تعالى- من ربًا ونحوه- أحيط بالشرط، والأمر، والنهي.
وكثرة هذه القيود إعلاء من شأن التحذير؛ لتضييق هذه المعاملة من جهة، ولأخذ الحذر عند التعامل بها من جهة أخرى، حتى الأساليب المساعدة في الآية مثل أسلوب النداء- مثلًا- يتواءم مع هذا التحذير؛ لأن النداء ضرب من التنبيه.
وأسلوب الاستثناء: إنما هو انتقاء جزء من كل؛ إذ ليس كل المعاملات سواء.
وأسلوب التفضيل: يصرِّح بهذا المعنى أيضًا؛ لأن هناك معاملات بديلة للديون أولى بالاتباع، كالبيع الناجز ونحو ذلك.
فإذا جئنا إلى الأدوات نلحظ ما يلي:
في حروف الجر شاع حرف الباء؛ حيث ذكر خمس مرات، ثم من حيث ذكر أربع مرات.
وحرف الباء يدور بين معاني الإلصاق، والاستعانة، والزيادة، وهي معانٍ لا تبعد كثيرا عن الديون؛ فالمَدِين ملصق بالدائن، مستعين به؛ لأخذ بعض الزيادة من ماله، أو هو ملصق بالأرض من الفقر، مستعين بغيره رغبة في زيادة ماله، والإلصاق هو أشهر معاني الباء، وقيل: إنه لا يفارقها، ويعني تعلق أحد المعنيين بالآخر.
فالتعلق هو أبرز ما يميز الباء، والتعلق أيضًا هو أبرز ما يميز الديون.
أما مِنْ: فمن معانيها التبعيض، وابتداء الغاية، والتقليل، والبدل، بل إنها تأتي أيضا بمعنى الباء، كما في قوله تعالى: {ينظرون من طرف خفي} أي: به.
وعلى هذا، فإن ما أشيع من حروف جر في الآية لا يخرج معناه عن حمى الديون، بل يرتع فيه، حتى تكتمل اللوحة التي تصور أطراف المعاملة، وضوابطها.
أما أن فإنها وردت في الآية مصدرية فقط، وإن كانت تأتي لمعانٍ كثيرة، لكن تأويلها مع ما بعدها بمصدر يشير إلى دخولها في الفعل بعدها، وانضمامها إليه والتصاقها به، وهذا أيضا لا يخرج عن الإطار الذي تدور في فلكه الآية.
أما الأفعال الناسخة، فقد استعمل منها كان- ليس.
والأصل في معنى- كان- المضيّ، والانقطاع. وكأنها تشير إلى أن مصير كثير من الديون الانقطاع، بل والضياع، إلا المضبوطه، وهنا تبرز ليس التي ذكرت مرة واحدة؛ لتفيد استثناء الديون المأخوذة بحق، والمحفوظة بالشرع.
وهكذا كلما تتبعتَ اللبنات الصغرى داخل الآية وحصَرتَ الشائع منها، وجدت أن الكل يدور في فلك واحد، وتتشابك خيوطه في نسيج واحد؛ لتكوّن صورة واحدة لمضمون واحد، وهو التحذير من الديون، وأخذ الحذر عند التعامل بها.