فصل: الحكم السابع: ما المراد من قوله تعالى: {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ}؟

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.الأحكام الشرعية:

.الحكم الأول: هل فرض على المسلمين صيامٌ قبل رمضان؟

يدل ظاهر قوله تعالى: {أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ} على أن المفروض على المسلمين من الصيام إنما هو هذه الأيام أيام رمضان وإلى هذا ذهب أكثر المفسرين، وهو مروي عن ابن عباس والحسن، واختاره ابن جرير الطبري.
وروي عن قتادة وعطاء أن المفروض على المسلمين كان ثلاثة أيام من كل شهر، ثم فرض عليهم صوم رمضان، وحجتهم أن قوله تعالى: {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} يدل على أنه واجب على التخيير، وأمّا صوم رمضان فإنه واجب على التعيين، فوجب أن يكون صوم هذه الأيام غير صوم رمضان.
واستدل الجمهور بأن قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام} مجمل يحتمل أن يكون يومًا أو يومين أو أكثر من ذلك فبينه بعض البيان بقوله: {أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ} وهذا أيضًا يحتمل أن يكون أسبوعًا أو شهرًا، فبيّنه تعالى بقوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ} فكان ذلك حجة واضحة على أنّ الذي فرضه على المسلمين هو شهر رمضان.
قال ابن جرير الطبري: وأولى الأقوال بالصواب عندي قول من قال: عنى جل ثناؤه بقوله: {أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ} أيام شهر رمضان، وذلك أنه لم يأت خبر تقوم به حجة بأن صومًا فرض على أهل الإسلام غير صوم شهر رمضان ثم نسخ بصوم رمضان، لأن الله تعالى قد بيّن في سياق الآية أن الصوم الذي أوجبه علينا هو صوم شهر رمضان دون غيره من الأوقات، بإبانته عن الأيام التي كتب علينا صومها بقوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن} فتأويل الآية كتب عليكم أيها المؤمنون الصيام، كما كتب على من قبلكم لعلكم تتقون، أيامًا معدودات هي شهر رمضان.

.الحكم الثاني: ما هو المرض والسفر المبيح للإفطار؟

أباح الله تعالى للمريض والمسافر الفطر في رمضان، رحمة بالعباد وتيسيرًا عليهم، وقد اختلف الفقهاء في المرض المبيح للفطر على أقوال:
أولًا- قال أهل الظاهر: مطلق المرض والسفر يبيح للإنسان الإفطار حتى ولو كان السفر قصيرًا والمرض يسيرًا حتى من وجع الإصبع والضرس، وروي هذا عن عطاء وابن سيرين.
ثانيًا- وقال بعض العلماء إن هذه الرخصة مختصة بالمريض الذي لو صام لوقع في مشقة وجُهد، وكذلك المسافر الذي يُضينه السفر ويُجهده، وهو قول الأصم.
ثالثًا- وذهب أكثر الفقهاء إلى أن المرض المبيح للفطر، هو المرض الشديد الذي يؤدي إلى ضرر في النفس، أو زيادةٍ في العلة، أو يُخشى معه تأخر البرء، والسفر الطويل الذي يؤدي إلى مشقةً في الغالب، وهذا مذهب الأئمة الأربعة.
دليل الظاهرية:
استدل أهل الظاهر بعموم الآية الكريمة {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ على سَفَرٍ} حيث أُطلق اللفظ ولم يُقيّد المرض بالشديد، ولا السفر بالبعيد، فمطلق المرض والسفر يبيح الإفطار، حكي أنهم دخلوا على ابن سيرين في رمضان وهو يأكل، فاعتلّ بوجع أصبعه.
وقال داود: الرخصة حاصلة في كل سفر، ولو كان السفر فرسخًا لأنه يقال له: مسافر، وهذا ما دل عليه ظاهر القرآن.
دليل الجمهور:
استدل جمهور الفقهاء على أن المرض اليسير الذي لا كلفة معه لا يبيح الإفطار بقوله تعالى في آية الصيام {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر} فالآية قد دلت على أن الفرض من الترخيص.
المرض خفيفًا والسفر قريبًا فلا يقال إن هناك مشقة رفعت عن الصائم، فأي مشقة من وجع الأصبع والضرس؟
الترجيح: أقول ما ذهب إليه الجمهور هو الصحيح الذي يتقبله العقل بقبول حسن، فإن الحكمة التي من أجلها رُخّص للمريض في الإفطار هي إرادة اليسر، ولا يراد اليسر إلاّ عند وجود المشقة، فأي مشقةٍ في وجع الأصبع، أو الصداع الخفيف والمرض اليسير، الذي لا كلفة معه في الصيام؟ ثمّ إن من الأمراض ما لا يكون شفاؤه إلا بالصيام، فكيف يباح الفطر لمن كان مرضه كذلك؟ ولم يكلفنا الله جلّ وعلا إلاّ على حسب ما يكون في غالب الظن، فيكفي أن يظهر أن الصوم يكون سببًا للمرض، أو زيادة العّلة، أما الإطلاق فيه أو التضييق فأمرٌ يتنافى مع إرادة اليسر بالمكلفين.
قال القرطبي: للمريض حالتان: إحداهما- ألاّ يطيق الصوم بحال فعليه الفطر واجبًا.
الثانية: أن يقدر على الصوم بضرر ومشقة، فهذا يستحب له الفطر، ولا يصوم إلا جاهل وقال جمهور العلماء: إذا كان به مرضٌ يؤلمه ويؤذيه، أو يخاف تماديه، أو يخاف زيادته صحّ له الفطر، واختلفت الرواية عن مالك في المرض المبيح للفطر، فقال مرة: هو خوف التلف من الصيام، وقال مرة: هو شدة المرض، والزيادة فيه، والمشقة الفادحة، وهذا صحيح مذهبه وهو مقتضى الظاهر.

.الحكم الثالث: ما هو السفر المبيح للإفطار؟

وأما السفر المبيح للإفطار فقد اختلف الفقهاء فيه بعد اتفاقهم على أنه لابد أن يكون سفرًا طويلًا على أقوال:
أ- قال الأوزاعي: السفر المبيح للفطر مسافة يوم.
ب- وقال الشافعي وأحمد: هو مسيرة يومين وليلتين، ويقدر بستة عشر فرسخًا.
ج- وقال أبو حنيفة والثوري: مسيرة ثلاثة أيام بلياليها ويقدر بأربعة وعشرين فرسخًا.
حجة الأوزاعي:
أنّ السفر أقل من يوم سفرٌ قصير قد يتفق للمقيم، والغالب أن المسافر هو الذي لا يتمكن من الرجوع إلى أهله في ذلك اليوم، فلابد أن يكون أقل مدة للسفر يومٌ واحد حتى يباح له الفطر.
حجة الشافعي وأحمد:
أولًا: أن السفر الشرعي هو الذي تُقصر فيه الصلاة، وتعبُ اليوم الواحد يسهل تحمله، أمّا إذا تكرر التعب في اليومين فإنه يشق تحمله فيناسب الرخصة.
ثانيًا: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة بُرد من مكة إلى عسفان».
قال أهل اللغة: وكل بريد أربعة فراسخ، فيكون مجموعة ستة عشر فرسخًا.
ثالثًا: ما روي عن عطاء أنه قال لابن عباس: أقصر إلى عرفة؟ فقال: لا، فقال: إلى مرّ الظهران؟ فقال: لا، ولكن أقصر إلى جدة، وعسفان، والطائف.
قال القرطبي: والذي في البخاري: وكان ابن عمر وابن عباس يفطران ويقصران في أربعة برد، وهي ستة عشر فرسخًا.
وهذا هو المشهور من مذهب مالك رحمه الله، وقد روي عنه أنه قال: أقله يوم وليلة، واستدل بحديث: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يومٍ وليلة إلا ومعها ذو محرم» رواه البخاري.
حجة أبي حنيفة والثوري:
أولًا: واحتج أبو حنيفة بأن قوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} يوجب الصوم، ولكنّا تركناه في ثلاثة الأيام للإجماع على الرخصة فيها، أما فيما دونها فمختلف فيه فوجب الصوم احتياطيًا.
ثانيًا: واحتج بقوله عليه السلام: «يمسح المقيم يومًا وليلة، والمسافر ثلاثة أيام ولياليها» فقد جعل الشارع علة المسح ثلاثة أيام السفرُ، والرخص لا تعلم إلاّ من الشرع، فوجب اعتبار الثلاث سفرًا شرعيًا.
ثالثًا: وبقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تسافر امرأة فوق ثلاثة أيام إلا ومعها ذو محرم» فتبيّن أن الثلاثة قد تعلق بها حكم شرعي، وغيرها لم يتعلق فوجب تقديرها في إباحة الفطر.
قال ابن العربي في تفسيره أحكام القرآن: وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلاّ ومعها ذو محرم» وفي حديث سفر ثلاثة أيام فرأى أبو حنيفة أن السفر يتحقق في أيام: يوم يتحمل فيه عن أهله، ويوم ينزل فيه في مستقره، واليوم الأوسط هو الذي يتحقق فيه السير المجرد، فرجل احتاط وزاد، ورجل ترخّص، ورجل تقصّر.
أقول: أمور العبادة ينبغي فيها الاحتياط، ولما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم منع المرأة من السفر مسيرة ثلاثة أيام، وثبت يوم وليلة وكلاهما في الصحيح، لذا كان العمل بالثلاث أحوط، فلعل ما ذهب إليه أبو حنيفة يكون أرجح والله أعلم.

.الحكم الرابع: هل الإفطار للمريض والمسافر رخصة أم عزيمة؟

ذهب أهل الظاهر إلى أنه يجب على المريض والمسافر أن يفطرا، ويصوما عدة من أيام أخرى، وأنهما لو صاما لا يجزئ صومهما لقوله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} والمعنى: فعليه عدة من أيام أخر، وهذا يقتضي الوجوب. وبقوله عليه السلام: «ليس من البر الصيام في السفر» وقد روي هذا عن بعض علماء السلف.
وذهب الجمهور وفقهاء الأمصار إلى أن الإفطار رخصة، فإن شاء أفطر وإن شاء صام واستدلوا بما يلي:
1- قالوا: إن في الآية إضمارًا تقديره: فأفطر فعليه عدة من أيام أخر، وهو نظير قوله تعالى: {فَقُلْنَا اضرب بِّعَصَاكَ الحجر فانفجرت} [البقرة: 60] والتقدير: فضرب فانفجرت، وكذلك قوله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} [البقرة: 196] أي فحلق فعليه فدية والإضمار في القرآن كثير لا ينكره إلا جاهل.
ب- واستدلوا بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بالخبر المستفيض أنه صام في السفر.
ج- وبما ثبت عن أنس قال: سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم.
د- وقالوا: إن المرض والسفر من موجبات اليسر شرعًا وعقلًا، فلا يصح أن يكونا سببًا للعسر.
وأما ما استدل به أهل الظاهر من قوله عليه السلام: «ليس من البر الصيام في السفر» فهذا واردٌ على سبب خاص وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا يظلّل والزحام عليه شديد فسأل عنه فقالوا: صائم أجهده العطش فذكر الحديث.
قال ابن العربي في تفسيره أحكام القرآن: وقد عُزي إلى قوم: إن سافر في رمضان قضاه، صامه أو أفطره، وهذا لا يقول به إلا الضعاء الأعاجم، فإن جزالة القول، وقوة الفصاحة، تقتضي تقدير فأفطر وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الصوم في السفر قولًا وفعلًا، وقد بينا ذلك في شرح الصحيح وغيره.

.الحكم الخامس: هل الصيام أفضل أم الإفطار؟

وقد اختلف الفقهاء القائلون بأن الإفطار رخصة في أيهما أفضل؟
فذهب أبو حنيفة، والشافعي، ومالك إلى أن الصيام أفضل لمن قوي عليه، ومن لم يقو على الصيام كان الفطر له أفضل، أما الأول فلقوله تعالى: {وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} وأما الثاني فلقوله تعالى: {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر}.
وذهب أحمد رحمه الله إلى أن الفطر أفضل أخذًا بالرخصة، فإن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه.
وذهب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إلى أنّ أفضلهما أيسرهما على المرء.
الترجيح: وما ذهب إليه الجمهور هو الأرجح لقوة أدلتهم والله تعالى أعلم.

.الحكم السادس: هل يجب قضاء الصيام متتابعًا؟

ذهب علي، وابن عمر، والشعبي إلى أنّ من أفطر لعذرٍ كمرضٍ أو سفر قضاه متتابعًا، وحجتهم أن القضاء نظير الأداء، فلما كان الأداء متتابعًا، فكذلك القضاء.
وذهب الجمهور إلى أن القضاء يجوز فيه كيف ما كان، متفرقًا أو متتابعًا، وحجتهم قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فالآية لم تشترط إلاّ صيام أيام بقدر الأيام التي أفطرها، وليس فيها ما يدل على التتابع فهي نكرة في سياق الإثبات، فأي يومٍ صامه قضاءً أجزأه.
واستدلوا بما روى عن أبي عبيدة بن الجراح أنه قال: إنّ الله لم يرخص لكم في فطره وهو يريد أن يشق عليكم في قضائه، إن شئت فواصل وإن شئت ففرّق.
الترجيح: والراجح ما ذهب إليه الجمهور لوضوح أدلتهم والله أعلم.

.الحكم السابع: ما المراد من قوله تعالى: {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ}؟

يرى بعض العلماء أن الصيام كان قد شرع ابتداءً على التخيير، فكان من شاء صام، ومن شاء أفطر وافتدى، يطعم عن كل يوم مسكينًا، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وهذا رأي الأكثرين واستدلوا لما رواه البخاري ومسلم عن سلمة بن الأكوع أنه قال: لما نزلت هذه الآية: {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ} كان من شاء منّا صام، ومن شاء أفطر ويفتدي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وهذا مروي عن ابن مسعود، ومعاذ، وابن عمر وغيرهم.
ويرى آخرون أن الآية غير منسوخة، وأنها نزلت في الشيخ الكبير، والمرأة العجوز، والمريض الذي يُجهده الصوم، وهذا مروي عن ابن عباس.
قال ابن عباس: «رخّص للشيخ الكبير أن يفطر، ويطعم عن كل يوم مسكينًا، ولا قضاء عليه».
وروى البخاري عن عطاء أنه سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقرأ: {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قال ابن عباس: ليست بمنسوخة، هي للشيخ الكبير، والمرأة الكبيرة، لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكينًا.
وعلى هذا تكون الآية غير منسوخة، ويكون معنى قوله تعالى: {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ} أي وعلى الذين يقدرون على الصوم مع الشدّة والمشقة، ويؤيده قراءة {يطوّقونه} أي يكلّفونه مع المشقة.