فصل: القراءات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.القراءات والوقوف:

قال النيسابوري:

.القراءات:

{ن والقلم} مظهرا: يزيد وأبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وابن كثير ونافع وعاصم غير يحيى وحماد وغالب وهو الأصل للوقف. ووجه الإخفاء نية الوصل {آن كان} بهمزتين: حمزة وأبو بكر وحماد {آن كان} بقلب الثانية ألفا، ابن عامر ويزيد ويعقوب الباقون بهمزة واحدة {يبدلنا} بالتشديد: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو {لما تخيرون} بتشديد التاء: البزي وابن فليح {ليزلقونك} بفتح الياء: أبو جعفر ونافع الآخرون: بالضم من الإزلاق.

.الوقوف:

{يسطرون} o ط لأن ما بعده جواب القسم {لمجنون} o ج لأن ما بعده يصلح مستأنفا وعطفا على جواب القسم {ممنون} o ج لذلك {عظيم} o {ويبصرون} ج لأن ما بعد مفعول {المفتون} o {سبيله} ط لاتفاق الجملتين {بالمهتدين} o {المكذبين} o {فيدهنون} o {مهين} o لا {بنميم} o لا {أثيم} o لا {زنيم} o ط لمن قرأ {أن كان} مستفهما {وبنين} o ومن قرأ مقصورا يقف على البنين دون {زنيم} {الأولين} o {الخرطوم} o {الجنة} ط لاحتمال أن يكون (إذ) ظرفا ليكون وأن يكون مفعول (أذكر) محذوفا {مصبحين} o لا لتعلق أن المفسرة {صارمين} o {يتخافتون} o لا {مسكين} o {قادرين} o {الضالون} o لا لعطف (بل) واتحاد المفعول {محرومون} o {تسبحون} o {ظالمين} o {يتلاومون} o {طاغين} o {راغبون} o {العذاب} ط {أكبر} م {يعلمون} o {النعيم} o {كالمجرمين} o ط {مالكم} ص وقفة لطيفة لاستفهام آخر {تحكمون} o ج {تدرسون} o ج لأن ما بعده مفعول {تدرسون} وإنما كسرت (أن) لدخول اللام في خبرها {تخيرون} o لا لأن (أم) معادل الاستفهام أو بمعنى ألف الاستفهام {القيامة} لا لأن (أن) جواب الأيمان {تحكمون} o {زعيم} o لما مر في {تخيرون} {شركاء} ج للابتداء بأمر التعجيز مع الفاء {صادقين} o {فلا يستطيعون} o لا لأن ما بعده حال {ذلة} ط {سالمون} o {بهذا الحديث} ط {لا يعلمون} o ج للعطف {لهم} ط {متين} o {مثقلون} o {يكتبون} o {الحوت} م بناء على أن (إذ) مفعول (اذكر) {مكظوم} o ط {مذموم} o {الصالحين} o {لمجنون} o لئلا يوهم أن ما بعده مقول الكفار {للعالمين} o. اهـ.

.فصل في الإسرائيليات في تفسير: {نْ والْقلم}:

قال الدكتور محمد أبو شهبة:
ومن ذلك: ما يذكر كثير من المفسرين في قوله تعالى: {نْ والْقلم} من أنه الحوت الذي على ظهره الأرض، ويسمى: (اليهموت)، وقد ذكر ابن جرير، والسيوطي روايات عن ابن عباس، منها: أول ما خلق الله القلم، فجرى: بما هو كائن، ثم رفع بخار الماء، وخلقت منه السماوات، ثم خلق النون، فبسطت الأرض عليه، فاضطرب النون، فمادت الأرض، فأثبتت بالجبال، وقد روي عن ابن عباس أيضا: أنه الدواة، ولعل هذا هو الأقرب، والمناسب لذكر القلم، وقد أنكر الزمخشري ورود نون بمعنى: الدواة في اللغة، وروى عنه أيضا: أنه الحرف الذي في آخر كلمة: (الرحمن)، وأن هذا الاسم الجليل فرق في: (الر) و(حم)، و(ن).
واضطراب النقل عنه يقلل الثقة بما روي عنه، ولاسيما الأثر الأول عنه، والظاهر أنه افتراء عليه، أو هو من الإسرائيليات ألصق به.
وإليك ما قاله إمام حافظ، ناقد، من مدرسة اشتهرت بأصالة النقد، وهو الإمام ابن قيم الجوزية، قال في أثناء كلامه على الأحاديث الموضوعة: ومن هذا: حديث أن قال: «جبل من زمردة خضراء، محيط بالدنيا كإحاطة الحائط بالبستان، والسماء واضعة أكنافها عليه».
ومن هذا: حديث: أن الأرض على صخرة، والصخرة على قرن ثور، فإذا حرك الثور قرنه، تحركت الصخرة، فهذا من وضع أهل الكتاب الذين قصدوا الاستهزاء بالرسل.
وقال الإمام أبو حيان في تفسيره: لا يصح من ذلك شيء ما عدا كونه اسما من أسماء حروف الهجاء. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{ن والْقلمِ وما يسْطُرُون (1)}
{ن} فيه مسألتان:
المسألة الأولى:
الأقوال المذكورة في هذا الجنس قد شرحناها في أول سورة البقرة والوجوه الزائدة التي يختص بها هذا الموضع أولها: أن النون هو السمكة، ومنه في ذكر يونس {وذا النون} [الأنبياء: 87] وهذا القول مروي عن ابن عباس ومجاهد ومقاتل والسدي ثم القائلون بهذا منهم من قال: إنه قسم بالحوت الذي على ظهره الأرض وهو في بحر تحت الأرض السفلى، ومنهم من قال: إنه قسم بالحوت الذي احتبس يونس عليه السلام في بطنه، ومنهم من قال: إنه قسم بالحوت الذي لطخ سهم نمروذ بدمه والقول الثاني: وهو أيضا مروي عن ابن عباس واختيار الضحاك والحسن وقتادة أن النون هو الدواة، ومنه قول الشاعر:
إذا ما الشوق يرجع بي إليهم ** ألقت النون بالدمع السجوم

فيكون هذا قسما بالدواة والقلم، فإن المنفعة بهما بسبب الكتابة عظيمة، فإن التفاهم تارة يحصل بالنطق و(تارة) يتحرى بالكتابة والقول الثالث: أن النون لوح تكتب الملائكة ما يأمرهم الله به فيه رواه معاوية بن قرة مرفوعا والقول الرابع: أن النون هو المداد الذي تكتب به الملائكة واعلم أن هذه الوجوه ضعيفة لأنا إذا جعلناه مقسما به وجب إن كان جنسا أن نجره وننونه، فإن القسم على هذا التقدير يكون بدواة منكرة أو بسمكة منكرة، كأنه قيل: وسمكة والقلم، أو قيل: ودواة والقلم، وإن كان علما أن نصرفه ونجره أو لا نصرفه ونفتحه إن جعلناه غير منصرف.
والقول الخامس: أن نون هاهنا آخر حروف الرحمن فإنه يجتمع من الرحمن ن اسم الرحمن فذكر الله هذا الحرف الأخير من هذا الاسم، والمقصود القسم بتمام هذا الاسم، وهذا أيضا ضعيف لأن تجويزه يفتح باب ترهات الباطنية، بل الحق أنه إما أن يكون اسما للسورة أو يكون الغرض منه التحدي أو سائر الوجوه المذكورة في أول سورة البقرة.
المسألة الثانية:
القراء مختلفون في إظهار النون وإخفائه من قوله: {ن والقلم} فمن أظهرها فلأنه ينوي بها الوقف بدلالة اجتماع الساكنين فيها، وإذا كانت موقوفة كانت في تقدير الانفصال مما بعدها، وإذا انفصلت مما بعدها وجب التبيين، لأنها إنما تخفى في حروف الفم عند الاتصال، ووجه الإخفاء أن همزة الوصل لم تقطع مع هذه الحروف في نحو {الم الله} [آل عمران: 1] وقولهم في العدد واحد اثنان فمن حيث لم تقطع الهمزة معها علمنا أنها في تقدير الوصل وإذا وصلتها أخفيت النون وقد ذكرنا هذا في {طس} [النمل: 1] و{يس} [يس: 1] وقال الفراء: وإظهارها أعجب إلي لأنها هجاء والهجاء كالموقوف عليه وإن اتصل.
وقوله تعالى: {والقلم} فيه قولان: أحدهما: أن القسم به هو الجنس وهو واقع على كل قلم يكتب به من في السماء ومن في الأرض، قال تعالى: {وربُّك الأكرم الذي علّم بالقلم علّم الإنسان ما لمْ يعْلمْ} [العلق: 3 5] فمنّ بتيسير الكتابة بالقلم كما منّ بالنطق فقال: {خلق الإنسان علّمهُ البيان} [الرحمن: 3، 4] ووجه الانتفاع به أن ينزل الغائب منزلة المخاطب فيتمكن المرء من تعريف البعيد به ما يتمكن باللسان من تعريف القريب والثاني: أن المقسم به هو القلم المعهود الذي جاء في الخبر أن أول ما خلق الله القلم، قال ابن عباس: أول ما خلق الله القلم ثم قال له اكتب ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة، فجرى بما هو كائن إلى أن تقوم الساعة من الآجال والأعمال، قال: وهو قلم من نور طوله كما بين السماء والأرض، وروى مجاهد عنه قال: أول ما خلق الله القلم فقال: اكتب القدر فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة وإنما يجري الناس على أمر قد فرغ منه.
قال القاضي: هذا الخبر يجب حمله على المجاز، لأن القلم الذي هو آلة مخصوصة في الكتابة لا يجوز أن يكون حيا عاقلا فيؤمر وينهى فإن الجمع بين كونه حيوانا مكلفا وبين كونه آلة للكتابة محال، بل المراد منه أنه تعالى أجراه بكل ما يكون وهو كقوله: {إِذا قضى أمْرا فإِنّما يقول لهُ كُن فيكُونُ} [البقرة: 117] فإنه ليس هناك أمر ولا تكليف، بل هو مجرد نفاذ القدرة في المقدور من غير منازعة ولا مدافعة، ومن الناس من زعم أن القلم المذكور هاهنا هو العقل، وأنه شيء هو كالأصل لجميع المخلوقات، قالوا: والدليل عليه أنه روي في الأخبار أن أول ما خلق الله القلم، وفي خبر آخر: أول ما خلق الله تعالى جوهرة فنظر إليها بعين الهيبة فذابت وتسخنت فارتفع منها دخان وزبد فخلق من الدخان السموات ومن الزبد الأرض، قالوا: فهذه الأخبار بمجموعها تدل على أن القلم والعقل وتلك الجوهرة التي هي أصل المخلوقات شيء واحد وإلا حصل التناقض.
قوله تعالى: {وما يسْطُرُون}.
اعلم أن ما مع ما بعدها في تقدير المصدر، فيحتمل أن يكون المراد وسطرهم، فيكون القسم واقعا بنفس الكتابة، ويحتمل أن يكون المراد المسطور والمكتوب، وعلى التقديرين فإن حملنا القلم على كل قلم في مخلوقات الله كان المعنى ظاهرا، وكأنه تعالى أقسم بكل قلم، وبكل ما يكتب بكل قلم، وقيل: بل المراد ما يسطره الحفظة والكرام الكاتبون، ويجوز أن يراد بالقلم أصحابه، فيكون الضمير في {يسْطُرُون} لهم، كأنه قيل: وأصحاب القلم وسطرهم، أي ومسطوراتهم.
وأما إن حملنا القلم على ذلك القلم المعين، فيحتمل أن يكون المراد بقوله: {وما يسْطُرُون} أي وما يسطرون فيه وهو اللوح المحفوظ، ولفظ الجمع في قوله: {يسْطُرُون} ليس المراد منه الجمع بل التعظيم، أو يكون المراد تلك الأشياء التي سطرت فيه من الأعمال والأعمار، وجميع الأمور الكائنة إلى يوم القيامة.
واعلم أنه تعالى لما ذكر المقسم به أتبعه بذكر المقسم عليه فقال: {ما أنْت بِنِعْمةِ ربِّك بِمجْنُونٍ (2)}
اعلم أن قوله: {ما أنت بِنِعْمةِ ربّك بِمجْنُونٍ} فيه مسألتان:
المسألة الأولى:
روي عن ابن عباس أنه عليه السلام غاب عن خديجة إلى حراء، فطلبته فلم تجده، فإذا به وجهه متغير بلا غبار، فقالت له مالك؟ فذكر نزول جبريل عليه السلام وأنه قال له: {اقرأ باسم ربّك} [العلق: 1] فهو أول ما نزل من القرآن، قال: ثم نزل بي إلى قرار الأرض فتوضأ وتوضأت، ثم صلى وصليت معه ركعتين، وقال: هكذا الصلاة يا محمد، فذكر عليه الصلاة والسلام ذلك لخديجة، فذهبت خديجة إلى ورقة بن نوفل، وهو ابن عمها، وكان قد خالف دين قومه، ودخل في النصرانية، فسألته فقال: أرسلي إليّ محمدا، فأرسلته فأتاه فقال له: هل أمرك جبريل عليه السلام أن تدعو إلى الله أحدا؟ فقال: لا، فقال: والله لئن بقيت إلى دعوتك لأنصرنك نصرا عزيزا، ثم مات قبل دعاء الرسول، ووقعت تلك الواقعة في ألسنة كفار قريش فقالوا: إنه لمجنون، فأقسم الله تعالى على أنه ليس بمجنون، وهو خمس آيات من أول هذه السورة، ثم قال ابن عباس: وأول ما نزل قوله: {سبِّحِ اسم ربّك} [الأعلى: 1] وهذه الآية هي الثانية.
المسألة الثانية:
قال الزجاج: {أنت} هو اسم {ما} و{بِمجْنُونٍ} الخبر، وقوله: {بِنِعْمةِ ربّك} كلام وقع في البين والمعنى انتفى عنك الجنون بنعمة ربك كما يقال: أنت بحمد الله عاقل، وأنت بحمد الله لست بمجنون، وأنت بنعمة الله فهم، وأنت بنعمة الله لست بفقير، ومعناه أن تلك الصفة المحمودة إنما حصلت، والصفة المذمومة إنما زالت بواسطة إنعام الله ولطفه وإكرامه، وقال عطاء وابن عباس: يريد بنعمة ربك عليك بالإيمان والنبوة، وهو جواب لقولهم: {يا أيُّها الذي نُزّل عليْهِ الذكر إِنّك لمجْنُونٌ} [الحجر: 6] واعلم أنه تعالى وصفه هاهنا بثلاثة أنواع من الصفات.
الصفة الأولى: نفي الجنون عنه ثم إنه تعالى قرن بهذه الدعوى ما يكون كالدلالة القاطعة على صحتها وذلك لأن قوله: {بِنِعْمةِ ربّك} يدل على أن نعم الله تعالى كانت ظاهرة في حقه من الفصاحة التامة والعقل الكامل والسيرة المرضية، والبراءة من كل عيب، والاتصاف بكل مكرمة وإذا كانت هذه النعم محسوسة ظاهرة فوجودها ينافي حصول الجنون، فالله تعالى نبه على هذه الدقيقة لتكون جارية مجرى الدلالة اليقينية على كونهم كاذبين في قولهم له: إنه مجنون.
الصفة الثانية: قوله: {وإِنّ لك لأجْرا غيْر ممْنُونٍ} وفي الممنون قولان: أحدهما: وهو قول الأكثرين، أن المعنى غير منقوص ولا مقطوع يقال: منّه السير أي أضعفه، والمنين الضعيف ومنّ الشيء إذا قطعه، ومنه قول لبيد:
غبش كواسب ما يمن طعامها

يصف كلابا ضارية، ونظيره قوله تعالى: {عطاء غيْر مجْذُوذٍ} [هود: 108].
والقول الثاني: وهو قول مجاهد ومقاتل والكلبي، إنه غير مقدر عليك بسبب المنة، قالت المعتزلة في تقرير هذا الوجه: إنه غير ممنون عليك لأنه ثواب تستوجبه على عملك، وليس بتفضل ابتداء، والقول الأول أشبه لأن وصفه بأنه أجر يفيد أنه لا منة فيه فالحمل على هذا الوجه يكون كالتكرير، ثم اختلفوا في أن هذا الأجر على أي شيء حصل؟ قال قوم معناه: إن لك على احتمال هذا الطعن والقول القبيح أجرا عظيما دائما، وقال آخرون: المراد إن لك في إظهار النبوة والمعجزات، في دعاء الخلق إلى الله، وفي بيان الشرع لهم هذا الأجر الخالص الدائم، فلا تمنعك نسبتها إياك إلى الجنون عن الاشتغال بهذا المهم العظيم، فإن لك بسببه المنزلة العالية عند الله.
الصفة الثالثة: قوله تعالى: {وإِنّك لعلى خُلُقٍ عظِيمٍ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
اعلم أن هذا كالتفسير لما تقدم من قوله: {بِنِعْمةِ ربّك} وتعريف لمن رماه بالجنون بأن ذلك كذب، وخطأ وذلك لأن الأخلاق الحميدة والأفعال المرضية كانت ظاهرة منه، ومن كان موصوفا بتلك الأخلاق والأفعال لم يجز إضافة الجنون إليه لأن أخلاق المجانين سيئة، ولما كانت أخلاقه الحميدة كاملة لا جرم وصفها الله بأنها عظيمة ولهذا قال: {قُلْ ما أسْئلُكُمْ عليْهِ مِنْ أجْرٍ وما أنا مِن المتكلفين} [ص: 86] أي لست متكلفا فيما يظهر لكم من أخلاقي لأن المتكلف لا يدوم أمره طويلا بل يرجع إلى الطبع، وقال آخرون: إنما وصف خلقه بأنه عظيم وذلك لأنه تعالى قال له: {أُوْلئِك الذين هدى الله فبِهُداهُمُ اقتده} [الأنعام: 90] وهذا الهدى الذي أمر الله تعالى محمدا بالاقتداء به ليس هو معرفة الله لأن ذلك تقليد وهو غير لائق بالرسول، وليس هو الشرائع لأن شريعته مخالفة لشرائعهم فتعين أن يكون المراد منه أمره عليه الصلاة والسلام بأن يقتدي بكل واحد من الأنبياء المتقدمين فيما اختص به من الخلق الكريم، فكأن كل واحد منهم كان مختصا بنوع واحد، فلما أمر محمد عليه الصلاة والسلام بأن يقتدي بالكل فكأنه أمر بمجموع ما كان متفرقا فيهم، ولما كان ذلك درجة عالية لم تتيسر لأحد من الأنبياء قبله، لا جرم وصف الله خلقه بأنه عظيم، وفيه دقيقة أخرى وهي قوله: {لعلى خُلُقٍ عظِيمٍ} وكلمة على للاستعلاء، فدل اللفظ على أنه مستعمل على هذه الأخلاق ومستول عليها، وأنه بالنسبة إلى هذه الأخلاق الجميلة كالمولى بالنسبة إلى العبد وكالأمير بالنسبة إلى المأمور.
المسألة الثانية:
الخلق ملكة نفسانية يسهل على المتصف بها الإتيان بالأفعال الجميلة.
واعلم أن الإتيان بالأفعال الجميلة غير وسهولة الإتيان بها غير، فالحالة التي باعتبارها تحصل تلك السهولة هي الخلق ويدخل في حسن الخلق التحرز من الشح والبخل والغضب، والتشديد في المعاملات والتحبب إلى الناس بالقول والفعل، وترك التقاطع والهجران والتساهل في العقود كالبيع وغيره والتسمح بما يلزم من حقوق من له نسب أو كان صهرا له وحصل له حق آخر.
وروي عن ابن عباس أنه قال معناه: وإنك لعلى دين عظيم، وروي أن الله تعالى قال له: «لم أخلق دينا أحب إلي ولا أرضى عندي من هذا الدين الذي اصطفيته لك ولأمتك» يعني الإسلام، واعلم أن هذا القول ضعيف، وذلك لأن الإنسان له قوتان، قوة نظرية وقوة عملية، والدين يرجع إلى كمال القوة النظرية، والخلق يرجع إلى كمال القوة العملية، فلا يمكن حمل أحدهما على الآخر، ويمكن أيضا أن يجاب عن هذا السؤال من وجهين: الوجه الأول: أن الخلق في اللغة هو العادة سواء كان ذلك في إدراك أو في فعل الوجه الثاني: أنا بينا أن الخلق هو الأمر الذي باعتباره يكون الإتيان بالأفعال الجميلة سهلا، فلما كانت الروح القدسية التي له شديدة الاستعداد للمعارف الإلهية الحقة وعديمة الاستعداد لقبول العقائد الباطلة، كانت تلك السهولة حاصلة في قبول المعارف الحقة، فلا يبعد تسمية تلك السهول بالخلق.
المسألة الثالثة:
قال سعيد بن هشام: قلت لعائشة: «أخبريني عن خلق رسول الله، قالت ألست قرأ القرآن؟ قلت: بلى قالت: فإنه كان خلق النبي عليه الصلاة والسلام» وسئلت مرة أخرى فقالت: «كان خلقه القرآن»، ثم قرأت: {قدْ أفْلح المؤمنون} [المؤمنون: 1] إلى عشرة آيات، وهذا إشارة إلى أن نفسه المقدسة كانت بالطبع منجذبة إلى عالم الغيب، وإلى كل ما يتعلق بها، وكانت شديدة النفرة عن اللذات البدنية والسعادة الدنيوية بالطبع ومقتضى الفطرة، اللهم ارزقنا شيئا من هذه الحالة.
وروى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: «ما كان أحد أحسن خلقا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما دعاه أحد من أصحابه ولا من أهل بيته إلا قال لبيك» فلهذا قال تعالى: {وإِنّك لعلى خُلُقٍ عظِيمٍ} وقال أنس: «خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي في شي فعلته لم فعلت، ولا في شيء لم أفعله هلا فعلت» وأقول: إن الله تعالى وصف ما يرجع إلى قوته النظرية بأنه عظيم، فقال: {وعلّمك ما لمْ تكُنْ تعْلمُ وكان فضْلُ الله عليْك عظِيما} [النساء: 113] ووصف ما يرجع إلى قوته العملية بأنه عظيم فقال: {وإِنّك لعلى خُلُقٍ عظِيمٍ} فلم يبق للإنسان بعد هاتين القوتين شيء، فدل مجموع هاتين الآيتين على أن روحه فيما بين الأرواح البشرية كانت عظيمة عالية الدرجة، كأنها لقوتها وشدة كمالها كانت من جنس أرواح الملائكة.
واعلم أنه تعالى لما وصفه بأنه على خلق عظيم قال: {فستُبْصِرُ ويُبْصِرُون (5)}
أي فسترى يا محمد ويرون يعني المشركين، وفيه قولان: منهم من حمل ذلك على أحوال الدنيا، يعني فستبصر ويبصرون الدنيا أنه كيف يكون عاقبة أمرك وعاقبة أمرهم، فإنك تصير معظما في القلوب، ويصيرون دليلين ملعونين، وتستولي عليهم بالقتل والنهب، قال مقاتل: هذا وعيد بالعذاب ببدر، ومنهم من حمله على أحوال الآخرة وهو كقوله: {سيعْلمُون غدا مّنِ الكذاب الأشر} [القمر: 26].
{بِأيِّكُمُ الْمفْتُونُ (6)}
ففيه وجوه: أحدها: وهو قول الأخفش وأبي عبيدة وابن قتيبة: أن الباء صلة زائدة والمعنى أيكم المفتون وهو الذي فتن بالجنون كقوله: {تنبُتُ بالدهن} [المؤمنين: 20] أي تنبت الدهن وأنشد أبو عبيدة:
نضرب بالسيف ونرجو بالفرج

والفراء طعن في هذا الجواب وقال: إذا أمكن فيه بيان المعنى الصحيح من دون طرح الباء كان ذلك أولى، وأما البيت فمعناه نرجو كشف ما نحن فيه بالفرج أو نرجو النصر بالفرج وثانيها: وهو اختيار الفراء والمبرد أن المفتون هاهنا بمعنى الفتون وهو الجنون، والمصادر تجيء على المفعول نحو المعقود والميسور بمعنى العقد واليسر، يقال: ليس له معقود رأي أي عقد رأى، وهذا قول الحسن والضحاك ورواية عطية عن ابن عباس وثالثها: أن الباء بمعنى في ومعنى الآية: فستبصر ويبصرون في أي الفريقين المجنون، أفي فرقة الإسلام أم في فرقة الكفار ورابعها: المفتون هو الشيطان إذ لا شك أنه مفتون في دينه وهم لما قالوا إنه مجنون فقد قالوا: إن به شيطانا فقال تعالى: سيعلمون غدا بأيهم شيطان الذي يحصل من مسه الجنون واختلاط العقل ثم قال تعالى: {إِنّ ربّك هُو أعْلمُ بِمنْ ضلّ عنْ سبِيلِهِ وهُو أعْلمُ بِالْمُهْتدِين (7)}
وفيه وجهان: الأول: هو أن يكون المعنى إن ربك هو أعلم بالمجانين على الحقيقة، وهم الذي ضلوا عن سبيله وهو أعلم بالعقلاء وهم المهتدون الثاني: أن يكون المعنى إنهم رموك بالجنون ووصفوا أنفسهم بالعقل وهم كذبوا في ذلك، ولكنهم موصوفون بالضلال، وأنت موصوف بالهداية والامتياز الحاصل بالهداية والضلال أولى بالرعاية من الامتياز الحاصل بسبب العقل والجنون، لأن ذاك ثمرته السعادة الأبدية أو الشقاوة، وهذا ثمرته السعادة أو الشقاوة في الدنيا. اهـ.