فصل: بلاغة التكرار في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.بلاغة التوجيه في قوله تعالى: {ولا يضار كاتب ولا شهيد}:

لما أمرت الآية بالكتابة، ثم أمرت بالإشهاد انتقلت إلى معنى آخر متصل به، وهو النهي عن الإضرار بهما، ولم يُقصد بذكر الأول التوصل إلى ذكر الثاني، وهذا عند علماء البلاغة يسمى الاستطراد.
وهو مشعر بامتداد الغرض... وكل ذلك يدل على خطورة الديون، وكثرة تبعاتها.
والمضارَّة هي: إدخال الغير بأن يوقع المتعاقدان الشاهدين والكاتب في الحرج والخسارة، أو ما يجرّ إلى العقوبة.
والفعل {يضار} يجوز أن يكون مسندًا إلى الفاعل، كأنه قال لا يُضارِر.
وأن يكون مفعولًا، أي: لا يضارَر، بأن يُشغل عن صنعته، ومعاشه باستعاء شهادته.
بمعنى أنه يحتمل البناء للمعلوم، والبناء للمجهول، ولعل اختيار هذه المادة هنا مقصود، لاحتمالها حكمين.
وعليه؛ ففي الكلام توجيه، والتوجيه هو: إيراد الكلام محتملًا لوجهين مختلفين؛ كقول الله تعالى حكاية عن المشركين: {واسمع غير مسمع وراعنا}.
قال الزمخشري: غير مسمع: حال من المخاطب؛ أي: اسمع وأنت غير مسمع، وهو قول ذو وجهين، يحتمل الذم، أي اسمع منا مدعوًا عليك بلا سمعت.
أو اسمع غير مجاب ما تدعو إليه.
فقوله: {ولا يضار} على معنى إدخال الشاهدين والكاتب في الحرج، والخسارة، أو إيذائهما لشهادتهما الحقة.
وقد يفهم منه معنى آخر،وهو أن يتواطأ الشاهدان والكاتب في التوثيق فيضيعا حق الدائن أو المدين.
لكن الأولى بالسياق مخاطبة المتداينين بألا يضارُّوا الكاتب أو الشهيد؛ لأنه لو كان خطابًا للكاتب أو الشهيد لقيل بعد: وإن تفعلا فإنه فسوق بكما.
وقد أخذ فقهاؤنا من هاته الآية أحكامًا كثيرة تتفرع عن الإضرار:
ومنها: ركوب الشاهد من المسافة البعيدة.
ومنها: ترك استفساره بعد المدة الطويلة التي هي مظنة النسيان.
ومنها: استفساره استفسارًا يوقعه في الاضطراب.
ومنها: أنه ينبغي لولاة الأمور جعل جانب من مال بيت المال لدفع مصاريف انتقال الشهود، وإقامتهم في غير بلدهم، وتعويض ما سينالون من ذلك الانتقال من الخسائر المالية في إضاعة عائلتهم؛ إعانةً على إقامة العدل بقدر الطاقة والسعة.
وفي تقديم الكاتب على الشهيد إشعار بأن الأصل في التوثيق هو الكتابة،. وأن ضبط هذه الديون واقع في المقام الأول على الكاتب.
أما إفراد اللفظين الكاتب والشهيد مع تنكيرهما؛ فلقصد التعميم، بمعنى: أي كاتب،وأي شهيد.
كما أن هناك ملمحًا آخر، وهو ترغيب كل منهما في تلبية الأمر دون النظر إلى وجود كاتب آخر، أو شاهد آخر، فتلبية الأمر- وبخاصة الشاهد- ضرورية، حتى وإن ذهب وحده، حتى وإن لم يحضر غيره.
أما اصطفاء صيغة البناء للمجهول في قوله: {ولا يضار كاتب ولا شهيد} فإنه مشعر بأن ذلك مترسخ في الفطر السليمة، حتى وإن لم تكن في دين الإسلام.
فبناء الجملة يضعها في قالب الحِكَم، والأمثال، وكأنه ليس تشريعًا للمسلمين، بل إخبار ببديهة تفرضها العقول الصحيحة، وهذا يُكسب المعنى قوة ولزومًا، وحرصًا من الجميع على الالتزام به، ويؤيد هذا قراءة: {ولا يضارُّ} بالرفع؛ إذ إن المعنى على أنه خبر، وليس إنشاءً، وكأن قراءة الرفع والنصب تشير إلى أن الجملة خبرٌ غُلِّف في صورة الإنشاء ليحمل من كلٍّ خصائصه، وميزاته.
فهو يحمل من الخبر لزومه وثبوته.
ويحمل من الإنشاء فريضته ووجوبه، وإثم من يخلفه.
وهذا ما أكدته الجملة التالية، وهي: {وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم}.

.البناء التركيبي لجملة: {وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم}:

هذه الجملة تثير عدة أسئلة: ومنها:
1- ما وجه البلاغة في إيثار الفعل {تفعلوا} دون تضاروا؟
2- ما وجه حذف المفعول للفعل {تفعلوا}؟
3- لم بني جواب الشرط على الجملة الاسمية؟
4- لم أضيف الفسوق إليهم؟ وكان يمكن أن يقال: فإنه فسوق، وكفى.
وبدايةً:
فالجملة تحذير من إضرار الكاتب، أو الشاهد بإلحاق حكم الفسوق بكل من يرتكب ذلك.
وبناء الجملة على الشرط يفيد احتمال وقوع هذا الإضرار، لكن الأصل، أو الشائع انتفاء هذا، كما أن اصطفاء أداة الشرط إنْ يشعر بندرة حدوثه.
أما بلاغة ذكر الإضرار بلفظ {تفعلوا} فإنه يكمن في تقبيح من يفعل ذلك، وأنه ارتكب أمرًا لا يمكن ذكره أو وصفه، وهو إضرار الكاتب أو الشاهد، وما هما إلا وسيلتان لحفظ الحقوق، ولا يعقل أن يقابل الإحسان إلا بالإحسان، فلما حدث هذا الإضرار عبَّر عنه بلفظ الفعل؛ استبشاعًا له وتهويلًا، كما قيل لموسى عليه الصلاة والسلام: {وفعلت فعلتك التي فعلت} [الشعراء: 19].
كما أن إيثار صيغة المضارع {تفعلوا} يشعر بأن المضارة أضحت عادة في الناس تتجدد، وتتكرر كثيرًا بينهم.
أما حذف المفعول من قوله: {وإن تفعلوا}؛ فلكي تذهب فيه العقول كُلّ مذهب، حتى يدخل فيه كل نوع من الإضرار، سواء في النفس أو المال أو الولد أو غير ذلك.
وجاء جواب الشرط جملةً اسمية مفتتحة بإنّ؛ للإشارة إلي مضمون الجملة، وهو ثبوت الفسوق بكل ما يضر الكاتب أو الشهيد؛ لأن في ذلك إغلاقًا لبابٍ أباحه الله تعالي، وفي ذلك تضيق علي الناس أو دفعًا لهم إلي الربا أو ما حرم الله.
وجاء اسم إنّ ضميرًا للشأن، ولضمير الشأن شأنٌ في بلاغة العرب، فلقد مضي العلماء علي أن فائدته الدلالة علي تعظيم المخبر عنه، وتفخيمه بأن يذكر أولًا مبهما ثم يفسَّر وكذلك يسمَّي ضمير المجهول، وهو عائد على ما بعده لزومًا إذ لا يجوز للجملة المفسرة له أن تتقدم عليه.
وعليه فتقدير المعنى: فإن الفسوق بكم.
وكون ضمير الشأن مفخمًا، ومعظمًا للمخبر عنه يعني أن التفخيم للفسوق، وأن المبالغة في الفسوق. وهذا لون من ألوان التنفير، وزجر لكل من تسول له نفسه الإضرار بالكاتب أو الشاهد، لأن فسقه سيكون مؤكدًا ومبالغًا فيه، أو أن الضمير يعود على الإضرار المفهوم من قوله: {ولا يضار}، ويكون المعنى: فإن الإضرار فسوق.
ثم إنه كان يمكن أن يقال: فإنه فسوق وكفى، لكنه زاد النسبة، فقال بكم لإشعارهم بأن ضررًا وأذى قد لحق بهم، فعليهم الإسراع للتخلص منه، وكأن الفسوق يتعلق بهم حال إضرارهم بالكاتب، أو الشهيد، وليس المراد هنا لزومه لهم، أو أنهم لا ينفكون عنه كما قال البعض.
ولقد جاء في الحديث: «سباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر» ولا يمكن حمل المعنى على أن من سب مسلمًا لزمه الفسوق، ولا ينفك عنه، بل المعنى: على أن الفسوق لاحق به حال سبه، وأن الكفر لاحق به حال قتاله لأخيه المؤمن، ويزول عنه إذا كف عن ذلك.
أما قوله: {بكم} وكان يمكن أن يقال- لأنه فسوق- فوجهه إرادة الحكم على الفاعل تنفيرًا من الإضرار، وزجرًا له عن الوقوع فيه.

.بلاغة التكرار في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}:

وهذه ثلاث جمل جاءت في ختام الآية، والواو في الجملة الأولى استئنافية؛ لختم التكاليف السابقة بالبواعث والمحرضات، على قبول ما سبق، والامتثال له؛ ذلك لأن التكاليف السابقة فيها من الثقل ما فيها، والنفس حين يثقل عليها العبء تحتاج إلى ما ينشطها، فذكرتها الآية بتقوى الله تعالى؛ لأنها ملاك الخير، وبها يكون ترك الفسوق.
أما تكرار، وإظهار اسم الجلالة في الجمل الثلاث، فلقصد التنويه لكل جملة؛ حتى تكون مستقلة الدلالة، غير محتاجة إلى غيرها المشتمل على مُعاد ضميرها، حتى إذا استمع السامع لكل واحدة منها حصل له علم مستقل، وقد لا يسمع إحداها فلا يضره ذلك في أخراها، ونظير هذا قول الحماسي:
اللؤم أكرم من وبر ووالده ** واللؤم أكرم من وبر وما ولدا

واللؤم داء لوبرٍ يُقتلون به ** لا يقتلون بداءٍ غيره أبدا

فإنه لما قصد التشنيع بالقبيلة، ومن ولدها، وما ولدته أظهر اللؤم في الجمل الثلاث، ولما كانت الجملة الرابعة كالتأكيد للثالثة لم يظهر اسم اللؤم بها.
هذا ولإظهار اسم الجلالة، وتكراره نكتة أخرى، وهي التهويل، وللتكرير مواقع يحسن فيها، ومواقع لا يحسن فيها.
قال عبد القاهر في خاتمة دلائل الإعجاز الذوق قد يدرك أشياء لا يُهتدى لأسبابها، وأن بعض الأئمة قد يعرض له الخطأ في التأويل، ومن ذلك ما حُكي عن الصاحب أنه قال: كان الأستاذ ابن العميد يختار من شعر ابن الرومي، ويُنقِّط على ما يختاره، قال الصاحب، فدفع إليَّ القصيدة التي أوّلها:
أتحت ضلوعي جمرة تتوقد ** على ما مضى أم حسرة تتجددُ

وقال لي: تأملها، فتأملتها، فوجدته قد ترك خير بيت فيها لم ينقط عليه، وهو قوله:
بجهل كجهل السيف والسيف منقض ** وحلم كحلم السيف والسيف مغمدُ

فقلت: لم ترك الأستاذ هذا البيت؟
فقال: لعل القلم تجاوزه، ثم رآني من بعدُ فاعتذر بعذر كان شرًا من تركه، فقال: إنما تركته؛ لأنه أعاد السيف أربع مرات.
قال الصاحب: لو لم يُعده لفسد البيت.
قال الشيخ عبد القاهر: والأمر كما قال الصاحب.... ثم قال:
إن الكناية والتعريض لا يعملان في العقول عمل الإفصاح والتكشيف، لأجل ذلك كان لإعادة اللفظ في قوله تعالى: {وبالحق أنزلناه وبالحق نزل} وقوله: {قل هو الله أحد الله الصمد} عمل لولاه لم يكن.
وقال الراغب: قد استكرهوا التكرير في قوله:
فما للنوى جُدّ النوى قُطع النوى

حتى قيل:لو سلط بعير على هذا البيت لرعى ما فيه من النوى، ثم قال: إن التكرير المستحسن: هو تكرير يقع على طريق التعظيم أو التحقير، في جمل متواليات، كل جملة منها مستقلة بنفسها، والمستقبح هو أن يكون التكرير في جملة واحدة، أو في جمل في معنى.... ولم يكن في معنى التعظيم أو التحقير.
فالراغب موافق للأستاذ ابن العميد، وعبد القاهر موافق للصاحب بن عباد.
قال المرزوقي في شرح الحماسة عند قول يحيى بن زياد:
لما رأيت الشيب لاح بياضه ** بمفرق رأسي قلت للشيب مرحبًا

كان الواجب أن يقول: قلت له: مرحبا لكنهم يكررون الأعلام، وأسماء الأجناس كثيرًا والقصد بالتكرير التفخيم.
وسواء أطلق العلماء على هذا مصطلح: وضع الظاهر موضع المضمر، أو الخروج على خلاف الأصل، أو التكرار؛ فإن القصد هو التعظيم، وإدخال الروعة وتربية المهابة في النفوس.
وعليه فتكرير اسم الله في ختام الآية حيث قيل: {واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم} إنما قصد به تربية المهابة في القلوب الدائنة، والمدينة، والشاهدة، والكاتبة، وكذا تربية المهابة في قلوب المجتمع الإسلامي ليحتاط في هذه المعاملات، ويسمع لأوامر، ويطيع.