الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال القرطبي: قوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ} التربص الانتظار؛ على ما قدّمناه. وهذا خبر والمراد الأمر؛ كقوله تعالى: {والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ} [البقرة: 233] وجمع رجل عليه ثيابه، وحسبك درهم، أي اكتف بدرهم؛ هذا قول أهل اللسان من غير خلاف بينهم فيما ذكر ابن الشجريّ. ابن العربيّ: وهذا باطل، وإنما هو خبر عن حكم الشرع؛ فإن وجدت مطلقة لا تتربص فليس من الشرع، ولا يلزم من ذلك وقوع خبر الله تعالى على خلاف مخبره.وقيل: معناه ليتربصن، فحذف اللام. اهـ..قال الفخر: القروء جمع قرء وقرء، ولا خلاف أن اسم القرء يقع على الحيض والطهر، قال أبو عبيدة: الإقراء من الأضداد في كلام العرب، والمشهور أنه حقيقة فيهما كالشفق اسم للحمرة والبياض جميعًا، وقال آخرون إنه حقيقة في الحيض، مجاز في الطهر، ومنهم من عكس الأمر، وقال قائلون: إنه موضوع بحيثية معنى واحد مشترك بين الحيض والطهر، والقائلون بهذا القول اختلفوا على ثلاثة أقوال فالأول: أن القرء هو الاجتماع، ثم في وقت الحيض يجتمع الدم في الرحم، وفي وقت الطهر يجتمع الدم في البدن، وهو قول الأصمعي والأخفش والفراء والكسائي.والقول الثاني: وهو قول أبي عبيد: أنه عبارة عن الانتقال من حالة إلى حالة.والقول الثالث: وهو قول أبي عمرو بن العلاء: أن القرء هو الوقت، يقال: أقرأت النجوم إذا طلعت، وأقرأت إذا أفلت، ويقال: هذا قارئ الرياح لوقت هبوبها، وأنشدوا للهذلي:إذا هبت لقارئها الرياح.. وإذا ثبت أن القرء هو الوقت دخل فيه الحيض والطهر، لأن لكل واحد منهما وقتًا معينًا، واعلم أنه تعالى أمر المطلقة أن تعتد بثلاثة قروء، والظاهر يقتضي أنها إذا اعتدت بثلاثة أشياء تسمى ثلاثة أقراء إن تخرج عن عهدة التكليف، إلا أن العلماء أجمعوا على أنه لا يكفي ذلك، بل عليها أن تعتد بثلاثة أقراء من أحد الجنسين، واختلفوا فيه فمذهب الشافعي رضي الله عنه أنها الأطهار، روي ذلك عن ابن عمر، وزيد، وعائشة، والفقهاء السبعة، ومالك، وربيعة، وأحمد رضي الله عنهم في رواية، وقال علي وعمر وابن مسعود هي الحيض، وهو قول أبي حنيفة، والثوري والأوزاعي وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وإسحاق رضي الله عنهم، وفائدة الخلاف أن مدة العدة عند الشافعي أقصر، وعندهم أطول، حتى لو طلقها في حال الطهر يحسب بقية الطهر قرءًا وإن حاضت عقيبه في الحال، فإذا شرعت في الحيضة الثالثة انقضت عدتها، وعند أبي حنيفة رضي الله عنه ما لم تطهر من الحيضة الثالثة إن كان الطلاق في حال الطهر، ومن الحيضة الرابعة إن كان في حال الحيض لا يحكم بانقضاء عدتها، ثم قال إذا طهرت لأكثر الحيض تنقضي عدتها قبل الغسل وإن طهرت لأقل الحيض لم تنقض عدتها حتى تغتسل أو تتيمم عند عدم الماء، أو يمضي عليها وقت صلاة. اهـ.ثم ذكر الإمام الفخر رحمه الله حجج كل فريق ثم عقب على ذلك بقوله:واعلم أن عند تعارض هذه الوجوه تضعف الترجيحات، ويكون حكم الله في حق الكل ما أدى اجتهاده إليه. اهـ..قال ابن عاشور: ومرجِع النظر عندي في هذا إلى الجمع بين مقصدي الشارع من العدة وذلك أن العدة قصد منها تحقق براءة رحم المطلقة من حمل المطلق، وانتطارُ الزوج لعله أن يرجع.فبراءة الرحم تحصل بحيضة أو طهر واحد، وما زاد عليه تمديد في المدة انتظارًا للرجعة.فالحيضة الواحدة قد جعلت علامة على براءة الرحم، في استبراء الأمة في انتقال الملك، وفي السبايا، وفي أحوال أخرى، مختلفًا في بعضها بين الفقهاء، فتعين أن ما زاد على حيض واحد ليس لتحقق عدم الحمل، بل لأن في تلك المدة رفقًا بالمطلق، ومشقة على المطلقة، فتعارض المقصدان، وقد رجح حق المطلق في انتظاره أمدًا بعد حصول الحيضة الأولى وانتهائها، وحصول الطهر بعدها، فالذين جعلوا القروء أطهارًا راعوا التخفيف عن المرأة، مع حصول الإمهال للزوج، واعتضدوا بالأثر.والذين جعلوا القروء حيضات زادوا للمطلق إمهالًا؛ لأن الطلاق لا يكون إلاّ في طهر عند الجميع، كما ورد في حديث عمر بن الخطاب في الصحيح، واتفقوا على أن الطهر الذي وقع الطلاق فيه معدود في الثلاثة القروء.وقروء صيغة جمع الكثرة، استعمل في الثلاثة، وهي قلة توسعًا، على عاداتهم في الجموع أنها تتناوب، فأوثر في الآية الأخف مع أمن اللبس بوجود صريح العدد.وبانتهاء القروء الثلاثة تنقضي مدة العدة، وتبِين المطلقة الرجعية من مفارقها، وذلك حين ينقضي الطهر الثالث وتدخل في الحيضة الرابعة، قال الجمهور: إذا رأت أول نقطة الحيضة الثالثة خرجت من العدة، بعد تحقق أنه دم الحيض. اهـ..قال البقاعي: ولما كان النكاح أشهى ما إلى الحيوان وكان حبك للشيء يعمي ويصم وكان النساء أرغب في ذلك مع ما بهن من النقص في العقل والدين فكان ذلك ربما حملهن على كتم ولد لإرادة زوج آخر تقصيرًا للعدة وإلحاقًا للولد به، أو حيض لرغبة في رجعة المطلق قال سبحانه وتعالى: {ولا يحل لهن} أي المطلقات {أن يكتمن ما خلق الله} أي الذي له الأمر كله من ولد أو دم {في أرحامهن} جمع رحم. قال الحرالي: وهو ما يشتمل على الولد من أعضاء التناسل يكون فيه تخلقه من كونه نطفة إلى كونه خلقا آخر- انتهى. وليس فيه دليل على أن الحمل يعلم، إنما تعلم أماراته.ولما كان معنى هذا الإخبار النهي ليكون نافيًا للحل بلفظه مثبتًا للحرمة بمعناه تأكيدًا له فكان التقدير: ولا يكتمن، قال مرغبًا في الامتثال مرهبًا من ضده: {إن كنّ يؤمن بالله} أي الذي له جميع العظمة {واليوم الآخر} الذي تظهر فيه عظمته أتم ظهور ويدين فيه العباد بما فعلوا، أي فإن كتمن شيئًا من ذلك دل على عدم الإيمان. وقال الحرالي: ففي إشعاره إثبات نوع نفاق على الكاتمة ما في رحمها؛ انتهى- وفيه تصرف. اهـ..قال الفخر: أما قوله تعالى: {وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ} فاعلم أن انقضاء العدة لما كان مبنيًا على انقضاء القرء في حق ذوات الأقراء، وضع الحمل في حق الحامل، وكان الوصول إلى علم ذلك للرجال متعذرًا جعلت المرأة أمينة في العدة، وجعل القول قولها إذا ادعت انقضاء قرئها في مدة يمكن ذلك فيها، وهو على مذهب الشافعي رضي الله عنه اثنان وثلاثون يومًا وساعة، لأن أمرها يحمل على أنها طقلت طاهرة فحاضت بعد سعة، ثم حاضت يومًا وليلة وهو أقل الحيض، ثم طهرت خمسة عشر يومًا وهو أقل الطهر، مرة أخرى يومًا وليلة، ثم طهرت خمسة عشر يومًا، ثم رأت الدم فقد انقضت عدتها بحصول ثلاثة أطهار، فمتى ادعت هذا أو أكثر من هذا قبل قولها، وكذلك إذا كانت حاملًا فادعت أنها أسقطت كان القول قولها، لأنها على أصل أمانتها. اهـ..قال ابن عاشور: وقوله تعالى: {ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن} إخبار عن انتفاء إباحة الكتمان، وذلك مقتضى الإعلام بأن كتمانهن منهي عنه محرم، فهو خبر عن التشريع، فهو إعلام لهن بذلك، وما خلق الله في أرحامهن هو الدم ومعناه كتم الخبر عنه لا كتمان ذاته، كقول النابغة: كتمتك ليلًا بالجمومين ساهرًا أي كتمتك حال ليل.و{ما خلق الله في أرحامهن} موصول، فيجوز حمله على العهد، أي ما خلق من الحيض بقرينة السياق.ويجوز حمله على معنى المعرف بلام الجنس فيعم الحيض والحمل، وهو الظاهر وهو من العام الوارد على سبب خاص؛ لأن اللفظ العام الوارد في القرآن عقب ذكر بعض أفراده، قد ألحقوه بالعام الوارد على سبب خاص، فأما من يقصر لفظ العموم في مثله على خصوص ما ذُكر قَبله، فيكون إلحاق الحوامل بطريق القياس، لأن الحكم نيط بكتمان ما خلق الله في أرحامهن. اهـ..قال الفخر: واعلم أن للمفسرين في قوله: {مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ} ثلاثة أقوال الأول: أنه الحبل والحيض معًا، وذلك لأن المرأة لها أغراض كثيرة في كتمانهما، أما كتمان الحبل فإن غرضها فيه أن انقضاء عدتها بالقروء أقل زمانًا من انقضاء عدتها بوضع الحمل، فإذا كتمت الحبل قصرت مدة عدتها فتزوج بسرعة، وربما كرهت مراجعة الزوج الأول، وربما أحبت التزوج بزوج آخر.أو أحبت أن يلتحق ولدها بالزوج الثاني، فلهذه الأغراض تكتم الحبل، وأما كتمان الحيض فغرضها فيه أن المرأة إذا طلقها الزوج وهي من ذوات الأقراء فقد تحب تطويل عدتها لكي يراجعها الزوج الأول، وقد تحب تقصير عدتها لتبطيل رجعته ولا يتم لها ذلك إلا بكتمان بعض الحيض في بعض الأوقات لأنها إذا حاضت أولًا فكتمته، ثم أظهرت عند الحيضة الثانية أن ذلك أول حيضها فقد طولت العدة، وإذا كتمت أن الحيضة الثالثة وجدت فكمثل، وإذا كتمت أن حيضها باق فقد قطعت الرجعة على زوجها، فثبت أنه كما أن لها غرضًا في كتمان الحبل، فكذلك في كتمان الحيض، فوجب حمل النهي على مجموع الأمرين.القول الثاني: أن المراد هو النهي عن كتمان الحمل فقط، واحتجوا عليه بوجوه أحدها: قوله تعالى: {هُوَ الذي يُصَوّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَاء} [آل عمران: 6] وثانيها: أن الحيض خارج عن الرحم لا أنه مخلوق في الرحم وثالثها: أن حمل قوله تعالى: {مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ} على الولد الذي هو جوهر شريف، أولى من حمله على الحيض الذي هو شيء في غاية الخساسة والقذر، واعلم أن هذه الوجوه ضعيفة، لأنه لما كان المقصود منعها عن إخفاء هذه الأحوال التي لا اطلاع لغيرها عليها، وبسببها تختلف أحوال الحرمة والحل في النكاح، فوجب حمل اللفظ على الكل.القول الثالث: المراد هو النهي عن كتمان الحيض، لأن هذه الآية وردت عقيب ذكر الأقراء، ولم يتقدم ذكر الحمل، وهذا أيضًا ضعيف، لأن قوله: {وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ} كلام مستأنف مستقل بنفسه من غير أن يضاف إلى ما تقدم، فيجب حمله على كل ما يخلق في الرحم.أما قوله تعالى: {إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بالله واليوم الأخر} فليس المراد أن ذلك النهي مشروط بكونها مؤمنة، بل هذا كما تقول للرجل الذي يظلم: إن كنت مؤمنًا فلا تظلم، تريد إن كنت مؤمنًا فينبغي أن يمنعك إيمانك عن ظلمي، ولا شك أن هذا تهديد شديد على النساء، وهو كما قال في الشهادة {وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] وقال: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدّ الذي اؤتمن أمانته وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ} [البقرة: 283] والآية دالة على أن كل من جعل أمينًا في شيء فخان فيه فأمره عند الله شديد. اهـ.
|