فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (184):

قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان السياق من أول السورة لإنذارهم، وكان لابد في صحة الإنذار من تصحيح الرسالة، وختم بأمر الاستدراج، وكانوا قد واقعوا من المعاصي ما لا يجترىء عليه إلا مطموس البصيرة، وكان عندهم أن من قال: إنهم على حال سيىء،- مع ما هم فيه من النعم الظاهر- مجنون، وكان التقدير دلالة على صحة الاستدراج؛ ألم يروا أنهم يقدمون على ما لا يرضاه لنفسه عاقل من عبادتهم للحجر وشماختهم عن أكمل البشر ووصفه بالجنون ووصفهم أفضل الكلام بالسحر والكذب إلى غير ذلك مما يغضب من ليس النفع والضر إلا بيده، وهو مع ذلك يوالي عليهم النعم، ويدفع عنهم النقم، هل ذلك إلا استدراج؛ قال منكرًا عليهم عطفًا على ما أرشد السياق والعطف على غير معطوف عليه إلى تقديره: {أولم يتفكروا} أي يعملوا أفكارهم ويمعنوا في ترتيب المقدمات ليعلموا أنه لا يتوجه لهم طعن يورث شبهة بوجه من الوجوه، وبين المراد من هذا التفكر وعينه بقوله: {ما بصاحبهم} أي الذي طالت خبرتهم لأنه أمتنهم عقلًا وأفضلهم شمائل ولم يقل: ما برسولي ونحوه، لئلا يقول متعنتهم مالا يخفى، وأعرق في النفي فقال: {من جنة} أي حالة من حالات الجنون.
ولما نفى أن يكون به شيء مما نسبوه إليه وافتزوه عليه فثبتت رسالته، حصر أمره في النذارة لأنها النافعة لهم مع أن المقام لها في هذه السورة فقال: {إن} أي ما {هو إلا نذير} أي بالغ في نذارته {مبين} أي موضح للطريق إيضاحًا لا يصل إلى غيره، ومن أدلة ذلك عجز الخلق عن معارضة شيء مما يأتي به من أنه أحسن الناس خَلقًا وأعلاهم خُلقًا وأفضلهم عشرة وأرضاهم طريقة وأعدلهم سيرة وأطهرهم سريرة وأشرفهم عملًا وأحكمهم علمًا وأرصنهم رأيًا وأعظمهم عقلًا وأشدهم أمانة وأظهرهم نبلًا. اهـ.

.القراءات والوقوف:

قال النيسابوري:

.القراءات:

{فبأي} بتليين الهمزة حيث كان: الأصفهاني عن ورش وحمزة في الوقف {ويذرهم} بالياء مرفوعًا: أبو عمرو وسهل ويعقوب وعاصم غير عياش والمفضل {ويذرهم} بالياء مجزومًا: عياش وحمزة وعلي وخلف. الباقون: بالنون مرفوعًا {أن أنا إلا} بالمد: أبو نشيط {شركًا} بكسر الشين وسكون الراء: أبو جعفر ونافع وأبو بكر وحماد. الآخرون: {شركاء} على الجميع {يتبعوكم} مخففًا: نافع. الباقون: بالتشديد. {يبطشون} بضم الطاء يزيد {قل ادعوا} بكسر اللام للساكنين وكذا بابه: حمزة وعاصم وسهل ويعقوب وعياش. الآخرون: بالضم للإتباع {كيدوني} بالياء في الحالين: سهل ويعقوب وابن شنبوذ عن قنبل، وافق أبو عمرو ويزيد وإسماعيل والحلواني عن هشام في الوصل {ينظرون} بالياء في الحالين: يعقوب وافق سهل وعياش في الوصل. {إن وليّ الله} بياء واحدة مشددة: أبو زيد عن المفضل وشجاع وعياش إذا قرأ الإدغام الكبير {وليي} بثلاث ياآت: رويس والبرجمي. الباقون: بياءين أولاهما مشددة مكسورة والثانية مفتوحة.

.الوقوف:

{من جنة} ط {مبين} o {من شيء} لا لأن التقدير وفي أن عسى {أجلهم} ط لابتداء الاستفهام مع الفاء {يؤمنون} o {هادي له} ط لمن قرأ {ويذرهم}. بالرفع على الاستئناف، ومن جزم فلا وقف لأنه معطوف على موضع {فلا هادي له}، {يعمهون} o {مرساها} ط {عند ربي} ج لاختلاف الجملتين {إلا هو} ط {والأرض} ط {بغتة} ط {عنها} ط {لا يعلمون} o {ما شاء الله} ط {من الخير} ج لاحتمال أن يفسر السوء بالجوع فيكون معطوفًا على جواب {لو}. واحتمال أن يفسر بالجنون الذي نسبوه إليه فيكون ابتداء نفي {يؤمنون} o {إليها} ج لأجل الفاء {فمرت به} ج لذلك {الشاكرين} o {فيما آتاهما} ج لابتداء التنزيه ووجه الوصل تعجيل التنزيه {يشركون} o {وهم يخلقون} o والوصل أولى للعطف {ينصرون} o {لا يتبعوكم} ط {صامتين} o {صادقين} o {يمشون بها} ز لأن {أم} عاطفة مع أنها في معنى ابتداء استفهام للإنكار الثانية والثالثة كذلك {يسمعون بها} ط {ينظرون} o {الكتاب} ط والوصل أولى لتكون الواو عاطفة {الصالحين} o {وينصرون} o {لا يسمعوا} ط {لا يبصرون} o. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184)}.
واعلم أنه تعالى لما بالغ في تهديد المعرضين عن آياته، الغافلين عن التأمل في دلائله وبيناته، عاد إلى الجواب عن شبهاتهم فقال: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مّن جِنَّةٍ} والتفكر طلب المعنى بالقلب وذلك لأن فكرة القلب هو المسمى بالنظر، والتعقل في الشيء والتأمل فيه والتدبر له، وكما أن الرؤية بالبصر حالة مخصوصة من الانكشاف والجلاء، ولها مقدمة وهي تقليب الحدقة إلى جهة المرئي: طلبًا لتحصيل تلك الرؤية بالبصر، فكذلك الرؤية بالبصيرة، وهي المسماة بالعلم واليقين، حالة مخصوصة في الانكشاف والجلاء، ولها مقدمة وهي تقليب حدقة العقل إلى الجوانب، طلبًا لذلك الانكشاف والتجلي، وذلك هو المسمى بنظر العقل وفكرته، فقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ} أمر بالفكر والتأمل والتدبر والتروي لطلب معرفة الأشياء كما هي عرفانًا حقيقيًا تامًا، وفي اللفظ محذوف.
والتقدير: أولم يتفكروا فيعلموا ما بصاحبهم من جنة، والجنة حالة من الجنون، كالجلسة والركبة ودخول {من} في قوله: {مّن جِنَّةٍ} يوجب أن لا يكون به نوع من أنواع الجنون.
واعلم أن بعض الجهال من أهل مكة كانوا ينسبونه إلى الجنون لوجهين: الأول: أن فعله عليه السلام كان مخالفًا لفعلهم، وذلك لأنه عليه السلام كان معرضًا عن الدنيا مقبلًا على الآخرة، مشتغلًا بالدعوة إلى الله، فكان العمل مخالفًا لطريقتهم، فاعتقدوا فيه أنه مجنون.
قال الحسن وقتادة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قام ليلًا على الصفا يدعو فخذًا فخذا من قريش.
فقال يا بني فلان يا بني فلان، وكان يحذرهم بأس الله وعقابه، فقال قائلهم: إن صاحبكم هذا لمجنون، واظب على الصياح طول هذه الليلة، فأنزل الله تعالى هذه الآية وحثهم على التفكر في أمر الرسول عليه السلام، ليعلموا أنه إنما دعا للإنذار لا لما نسبه إليه الجهال.
الثاني: أنه عليه السلام كان يغشاه حالة عجيبة عند نزول الوحي فيتغير وجهه ويصفر لونه، وتعرض له حالة شبيهة بالغشي، فالجهال كانوا يقولون إنه جنون فالله تعالى بين في هذه الآية أنه ليس به نوع من أنواع الجنون، وذلك لأنه عليه السلام كان يدعوهم إلى الله، ويقيم الدلائل القاطعة والبينات الباهرة، بألفاظ فصيحة بلغت في الفصاحة إلى حيث عجز الأولون والآخرون عن معارضتها، وكان حسن الخلق، طيب العشرة، مرضي الطريقة نقي السيرة، مواظبًا على أعمال حسنة صار بسببها قدوة للعقلاء العالمين، ومن المعلوم بالضرورة أن مثل هذا الإنسان لا يمكن وصفه بالجنون، وإذا ثبت هذا ظهر أن اجتهاده على الدعوة إلى الدين إنما كان لأنه نذير مبين، أرسله رب العالمين لترهيب الكافرين، وترغيب المؤمنين، ولما كان النظر في أمر النبوة مفرعًا على تقرير دلائل التوحيد، لا جرم ذكر عقيبه ما يدل على التوحيد. اهـ.

.قال السمرقندي:

{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ} يعني أهل مكة فيما يأمرهم محمد صلى الله عليه وسلم أن يعبدوا خالقهم، ورازقهم، وكاشف الضر عنهم، ولا يعبدوا من لا يقدر على شيء منه أمثل هذا يكون مجنونًا.
ويقال: معناه {أَوَلَم يَتَفَكَّرُواْ} في دلائل النبي صلى الله عليه وسلم ومعجزاته ليستدلوا بأنه نبي وقد تم الكلام.
ثم استأنف فقال: {مَا بِصَاحِبِهِم مّن جِنَّةٍ} ويقال: هذا على وجه البناء.
ومعناه: أو لم يتفكروا ليعلموا {مَا بِصَاحِبِهِم مّن جِنَّةٍ} يعني: جنونًا.
ويقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم صعد ذات ليلة الصفا، فدعا قريشًا إلى عبادة الله تعالى بأسمائهم فردًا فردًا، فقال بعضهم: إن صاحبكم لمجنون.
فوعظهم الله تعالى فقال: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ} يقول: أو لم يجالسوه ويكلموه هل به من جنون {إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أي رسولًا بينًا.
وهذا كقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بواحدة أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مثنى وفرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بصاحبكم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبإ: 46]. اهـ.

.قال الثعلبي:

{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِّن جِنَّةٍ}.
قتادة: ذكر لنا «أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قام على الصفا ليلًا فجعل يدعو قريشًا فخذًا فخذًا يا بني فلان يا بني فلان يحذرهم بأس الله عزّ وجلّ، ووقائعه فقال قائلهم: إن صاحبكم هذا لمجنون بات يصوّت حتى الصباح فأنزل الله: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ}» ما بمحمد من جنون.
{إِنْ هُوَ} ما هو {إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} مخوف. اهـ.

.قال ابن عطية:

قوله: {أولم يتفكروا ما بصاحبهم} الآية، تقرير يقارنه توبيخ للكفار، والوقف على قوله: {أولم يتفكروا} ثم ابتدأ القول بنفي ما ذكوره فقال: {ما بصاحبهم من جنة} أي بمحمد صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون المعنى أو لم يتفكروا أنه ما بصاحبهم من جنة، وسبب نزول هذه الآية فيما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد ليلًا على الصفا فجعل يدعو قبائل قريش، يا بني فلان، يا بني فلان يحذرهم ويدعوهم إلى الله فقال بعض الكفار حين أصحبوا هذا مجنون بات يصوت حتى الصباح فنفى الله عز وجل ما قالوه من ذلك في هذا الموطن المذكور وفي غيره، فإن الجنون بعض ما رموه به حتى أظهر الله نوره، ثم أخبر أنه نذير أي محذر من العذاب، ولفظ النذارة إذا جاء مطلقًا فإنما هو في الشر، وقد يستعمل في الخير مقيدًا به، ويظهر من رصف الآية أنها باعثة لهم على الفكرة في أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه ليس به جنة كما أحالهم بعد هذه الآية على النظر ثم بين المنظور فيه كذلك أحال هنا على الفكرة ثم بين المتفكر فيه. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ}.
سبب نزولها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، علا على الصفا ليلة، ودعا قريشًا فخذًا فخذًا: يا بني فلان، يا بني فلان، يا بني فلان، فحذَّرهم بأس الله وعقابه، فقال قائلهم: إن صاحبكم هذا لمجنون، بات يصوِّت حتى الصباح، فنزلت هذه الآية، قاله الحسن، وقتادة.
ومعنى الآية: أولم يتفكروا فيعلموا ما بصاحبهم من جِنة، أي: جنون، فحثَّهم على التفكر في أمره ليعلموا أنه بريء من الجنون.
{إن هو} أي: ما هو {إلا نذير} أي: مخوِّف {مبين} يبيِّن طريق الهدى. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ} أي فيما جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم.
والوقف على {يَتَفَكَّرُوا} حسن.
ثم قال: {مَا بِصَاحِبِهِمْ مِّن جِنَّةٍ} ردّ لقولهم: {يا أيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر: 6].
وقيل: نزلت بسبب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام ليلة على الصّفا يدعو قريشًا، فخِذا فخذًا؛ فيقول: «يا بني فلان».
يحذرهم بأس الله وعقابه.
فقال قائلهم: إن صاحبهم هذا لمجنون، بات يصوّت حتى الصباح. اهـ.