الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال ابن عاشور: والمقصود من التفضيل في قوله: {خير} التفضيل في المنافع الحاصلة من المرأتين؛ فإن في تزوج الأمة المؤمنة منافع دينية وفي الحرة المشركة منافع دنيوية ومعاني الدين خير من أعراض الدنيا المنافية للدين فالمقصود منه بيان حكمة التحريم استئناسًا للمسلمين.ووقع في (الكشاف) حمل الأمة على مطلق المرأة، لأن الناس كلهم إماء الله وعبيده وأصله منقول عن القاضي أبي الحسن الجرجاني كما في القرطبي وهذا باطل من جهة المعنى ومن جهة اللفظ، أما المعنى فلأنه يصير تكرارًا مع قوله: {ولا تنكحوا المشركات} إذ قد علم الناس أن المشركة دون المؤمنة، ويُفيت المقصود من التنبيه على شرفِ أقلِّ أَفرادِ أحد الصنفين على أشرَف أفراد الصنف الآخر، وأما من جهة اللفظ فلأنه لم يرد في كلام العرب إطلاق الأمة على مطلق المرأة، ولا إطلاق العبد على الرجل إلاّ مقيَّدين بالإضافة إلى اسم الجلالة في قولهم يا عبدَ الله ويا أمةَ الله، وكونُ الناس إماءَ الله وعبيدَه إنما هو نظر للحقائق لا للاستعمال، فكيف يخرَّج القرآن عليه. اهـ..قال أبو حيان: وقد استدل بقوله: خير، على جواز نكاح المشركة لأن أفعل التفضيل يقتضي التشريك، ويكون النهي أوّلًا على سبيل الكراهة، قالوا: والخيرية إنما تكون بين شيئين جائزين، ولا حجة في ذلك، لأن التفضيل قد يقع على سبيل الاعتقاد. لا على سبيل الوجود، ومنه: {أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرًا} و: العسل أحلى من الخل؛ وقال عمر، في رسالته لأبي موسى: الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، ويحتمل إبقاء الخيرية على الاشتراك الوجودي، ولا يدل ذلك على جواز النكاح بأن نكاح المشركة يشتمل على منافع دنيوية، ونكاح الأمة المؤمنة على منافع أخروية، فقد اشترك النفعان في مطلق النفع إلا أن نفع الآخرة له المزية العظمى، فالحكم بهذا النفع الدنيوي لا يقتضي التسويغ، كما أن الخمر والميسر فيهما منافع، ولا يقتضي ذلك الإباحة، وما من شيء محرم إلاَّ يكاد يكون فيه نفع مّا. اهـ..قال الفخر: اتفق الكل على أن المراد من قوله: {حتى يُؤْمِنَّ} الإقرار بالشهادة والتزام أحكام الإسلام، وعند هذا احتجت الكرامية بهذه الآية على أن الإيمان عبارة عن مجرد الإقرار وقالوا إن الله تعالى جعل الإيمان هاهنا غاية التحريم والذي هو غاية التحريم هاهنا الإقرار، فثبت أن الإيمان في عرف الشرع عبارة عن الإقرار، واحتج أصحابنا على فساد هذا المذهب بوجوه: أحدها: أنا بينا بالدلائل الكثيرة في تفسير قوله: {الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب} [البقرة: 3] أن الإيمان عبارة عن التصديق بالقلب وثانيها: قوله تعالى: {وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ آمَنَّا بالله وباليوم الآخر وَمَا هُم} [البقرة: 8] ولو كان الإيمان عبارة عن مجرد الإفراد لكان قوله تعالى: {مَّا هُم بِمُؤْمِنِينَ} كذبًا وثالثها: قوله: {قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ} [الحجرات: 14] ولو كان الإيمان عبارة عن مجرد الإقرار لكان قوله: {قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ} كذبًا، ثم أجابوا عن تمسكهم بهذه الآية بأن التصديق الذي في القلب لا يمكن الإطلاع عليه فأقيم الإقرار باللسان مقام التصديق بالقلب. اهـ.قال الفخر:نقل عن الحسن أنه قال: هذه الآية ناسخة لما كانوا عليه من تزويج المشركات قال القاضي: كونهم قبل نزول هذه الآية مقدمين على نكاح المشركات إن كان على سبيل العادة لا من قبل الشرع امتنع وصف هذه الآية بأنها ناسخة، لأنه ثبت في أصول الفقه أن الناسخ والمنسوخ يجب أن يكون حكمين شرعيين، أما إن كان جواز نكاح المشركة قبل نزول هذه الآية ثابتًا من قبل الشرع كانت هذه الآية ناسخة. اهـ..من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {ولأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ}: .قال القرطبي: نزلت في خَنساءَ وليدةٍ سوداءَ كانت لحذيفةَ بنِ اليمان؛ فقال لها حذيفة: يا خنساءُ، قد ذُكرت في الملأ الأعلى مع سوادِك ودمامَتِك، وأنزل الله تعالى ذكرك في كتابه، فأعتقها حُذيفةُ وتزوّجها. وقال السُّدّيّ: نزلت في عبد الله بن رَواحةَ، كانت له أُمَةٌ سوداءُ فلطمها في غضب ثم نَدِم، فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبره؛ فقال: ما هي يا عبدَ الله قال: تصوم وتُصلِّي وتُحسِن الوضوءَ وتَشهد الشهادتين؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذه مؤمنة» فقال ابن رواحة: لأَعتِقنّها ولأَتزوّجنّها؛ ففعل؛ فطعن عليه ناس من المسلمين وقالوا: نكح أَمَةً؛ وكانوا يرون أن ينكحوا إلى المشركين، وكانوا ينكحونهم رغبة في أحسابهم، فنزلت هذه الآية. والله أعلم. اهـ..قال الفخر: الخير هو النفع الحسن: والمعنى: أن المشركة لو كانت ثابتة في المال والجمال والنسب، فالأمة المؤمنة خير منها لأن الإيمان متعلق بالدين والمال والجمال والنسب متعلق بالدنيا والدين خير من الدنيا ولأن الدين أشرف الأشياء عند كل أحد فعند التوافق في الدين تكمل المحبة فتكمل منافع الدنيا من الصحة والطاعة وحفظ الأموال والأولاد وعند الاختلاف في الدين لا تحصل المحبة، فلا يحصل شيء من منافع الدنيا من تلك المرأة، وقال بعضهم المراد ولأمة مؤمنة خير من حرة مشركة، واعلم أنه لا حاجة إلى هذا التقدير لوجهين أحدهما: أن اللفظ مطلق والثاني: أن قوله: {وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} يدل على صفة الحرية، لأن التقدير: ولو أعجبتكم بحسنها أو مالها أو حريتها أو نسبها، فكل ذلك داخل تحت قوله: {وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ}. اهـ..قال أبو السعود: {وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} قد مر أن كلمة {لو} في أمثال هذه المواقع ليست لبيان انتفاءِ الشيء في الماضي لانتفاء غيره فيه فلا يلاحَظَ لها جوابٌ قد حذف ثقةً بدلالة ما قبلها عليه مع انصباب المعنى على تقديره بل هي لبيان تحقيقِ ما يفيدُه الكلام السابق من الحكم على كل حال مفروض من الأحوال المقارنة له على الإجمال بإدخالها على أبعدها منه وأشدِّها منافاةً له ليظهرَ بثبوته معه ثبوتُه مع ما عداه من الأحوال بطريق الأولوية لما أن الشيءَ متى تحقق مع المُنافي القويِّ فلأَنْ يتحققَ مع غيره أولى، ولذلك لا يُذكر معه شيء من سائر الأحوال ويكتفى عنه بذكر الواو العاطفةِ للجملة على نظيرتها المقابلة لها المتناولةِ لجميع الأحوال المغايرة لها وهذا معنى قولهم: إنها لاستقصاء الأحوالِ على وجه الإجمال كأنه قيل: لو لم تعجبْكم ولو أعجبتكم والجملةُ في حيِّز النصبِ على الحالية من مشركة إذ المآل ولأمة مؤمنة خيرٌ من امرأة مشركة حال عدمِ إعجابها إياكم بجمالها ومالِها ونسبها وغيرِ ذلك من مبادئ الإعجابِ وموجباتِ الرغبة فيها أي على كل حال، وقد اقتُصر على ذكر ما هو أشدُّ منافاةً للخيرية تنبيهًا على أنها حيث تحققت معه فلأَنْ تتحققَ مع غيره أولى وقيل: الواوُ حاليةٌ وليس بواضح وقيل: اعتراضيةٌ وليس بسديد، والحقُّ أنها عاطفة مستتبعةٌ لما ذكر من الاعتبار اللطيف. نعم يجوز أن تكونَ الجملةُ الأولى مع عاطف عليها مستأنفةً مقرِّرةً لمضمون ما قبلها فتدبر. اهـ..إشكال وجوابه: قال الفخر:في الآية إشكال وهو أن قوله: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات} يقتضي حرمة نكاح المشركة، ثم قوله: {وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكَةٍ} يقتضي جواز التزوج بالمشركة لأن لفظة أفعل تقتضي المشاركة في الصفة ولأحدهما مزية.قلنا: نكاح المشركة مشتمل على منافع الدنيا، ونكاح المؤمنة مشتمل على منافع الآخرة، والنفعان يشتركان في أصل كونهما نفعًا، إلا أن نفع الآخرة له المزية العظمى، فاندفع السؤال، والله أعلم. اهـ..من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {وَلاَ تُنكِحُواْ المشركين حتى يُؤْمِنُواْ}: .قال الفخر: أما قوله تعالى: {وَلاَ تُنكِحُواْ المشركين حتى يُؤْمِنُواْ} فلا خلاف هاهنا أن المراد به الكل وأن المؤمنة لا يحل تزويجها من الكافر ألبتة على اختلاف أنواع الكفرة. اهـ..قال القرطبي: قوله تعالى: {وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ} أي مملوك {خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ} أي حَسيِب. {وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} أي حَسَبه وماله؛ حسب ما تقدّم. وقيل المعنى: ولرجل مؤمن، وكذا ولأَمَة مؤمنة، أي ولا امرأة مؤمنة، كما بيّناه. قال صلى الله عليه وسلم: «كلُّ رجالِكم عَبيد الله وكلُّ نسائِكم إماء الله» وقال: «لا تمنعوا إماء الله مساجدَ الله» وقال تعالى: {نِعْمَ العبد إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 30، 44]. وهذا أحسن ما حمل عليه القول في هذه الآية، وبه يرتفع النزاع ويزول الخلاف؛ والله الموفق. اهـ..قال أبو حيان: وفي هذه الآية تنبيه على العلة المانعة من المناكحة في الكفار، لما هم عليه من الالتباس بالمحرّمات من: الخمر والخنزير، والانغماس في القاذورات، وتربية النسل وسرقة الطباع من طباعهم، وغير ذلك مما لا تعادل فيه شهوة النكاح في بعض ما هم عليه، وإذا نظر إلى هذه العلة فهي موجودة في كل كافر وكافرة فتقتضي المنع من المناكحة مطلقًا. اهـ..من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ}: .قال البقاعي: ولما كانت مخالطة أهل الشرك مظنة الفساد الذي ربما أدى إلى التهاون بالدين فربما دعا الزوج زوجته إلى الكفر فقاده الميل إلى اتباعه قال منبهًا على ذلك ومعللًا لهذا الحكم: {أولئك} أي الذين هم أهل للبعد من كل خير {يدعون إلى النار} أي الأفعال المؤدية إليها ولابد فربما أدى الحب الزوج المسلم إلى الكفر ولا عبرة باحتمال ترك الكافر للكفر وإسلامه موافقة للزوج المسلم لأن درء المفاسد مقدم. اهـ..قال الفخر: هذه الآية نظير قوله: {مَا لِى أَدْعُوكُمْ إِلَى النجاة وَتَدْعُونَنِى إِلَى النار} [غافر: 41].فإن قيل: فكيف يدعون إلى النار وربما لم يؤمنوا بالنار أصلًا، فكيف يدعون إليها.وجوابه: أنهم ذكروا في تأويل هذه الآية وجوهًا أحدها: أنهم يدعون إلى ما يؤدي إلى النار، فإن الظاهر أن الزوجية مظنة الألفة والمحبة والمودة، وكل ذلك يوجب الموافقة في المطالب والأغراض، وربما يؤدي ذلك إلى انتقال المسلم عن الإسلام بسبب موافقة حبيبه.فإن قيل: احتمال المحبة حاصل من الجانبين، فكما يحتمل أن يصير المسلم كافرًا بسبب الألفة والمحبة، يحتمل أيضًا أن يصير الكافر مسلمًا بسبب الألفة والمحبة، وإذا تعارض الإحتمالان وجب أن يتساقطا، فيبقى أصل الجواز.قلنا: إن الرجحان لهذا الجانب لأن بتقدير أن ينتقل الكافر عن كفره يستوجب المسلم به مزيد ثواب ودرجة، وبتقدير أن ينتقل المسلم عن إسلامه يستوجب العقوبة العظيمة، والإقدام على هذا العمل دائر بين أن يلحقه مزيد نفع، وبين أن يلحقه ضرر عظيم، وفي مثل هذه الصورة يجب الإحتراز عن الضرر، فلهذا السبب رجح الله تعالى جانب المنع على جانب الإطلاق.التأويل الثاني: أن في الناس من حمل قوله: {أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النار} أنهم يدعون إلى ترك المحاربة والقتال، وفي تركهما وجوب استحقاق النار والعذاب وغرض هذا القائل من هذا التأويل أن يجعل هذا فرقًا بين الذمية وبين غيرها، فإن الذمية لا تحمل زوجها على المقاتلة فظهر الفرق.التأويل الثالث: أن الولد الذي يحدث ربما دعاه الكافر إلى الكفر فيصير الولد من أهل النار، فهذا هو الدعوة إلى النار {والله يَدْعُو إلى الجنة} حيث أمرنا بتزويج المسلمة حتى يكون الولد مسلمًا من أهل الجنة. اهـ.
|