الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال القرطبي: قوله تعالى: {وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ الله مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ} لفظ عام لجميع العامة، وإن كان المشار إليه بني إسرائيل؛ لكونهم بدّلوا ما في كتبهم وجحدوا أمر محمد صلى الله عليه وسلم؛ فاللفظ منسحب على كل مبدّل نعمة الله تعالى. وقال الطبريّ: النعمة هنا الإسلام؛ وهذا قريب من الأوّل. ويدخل في اللفظ أيضًا كفّار قريش؛ فإن بعث محمد صلى الله عليه وسلم فيهم نعمة عليهم؛ فبدّلوا قبولها والشكر عليها كفرًا. اهـ..قال ابن عاشور: وقوله: {ومن يبدل نعمة الله} تذييل لجملة: {سل بني إسرائيل كم آتيناهم} الخ، أفاد أن المقصود أولًا من هذا الوعيدِ هم بنو إسرائيل المتحدث عنهم بقوله: {سل بني إسرائيل}، وأفاد أن بني إسرائيل قد بدَّلوا نعمة الله تعالى فدل ذلك على أن الآيات التي أوتيها بنو إسرائيل هي نعم عليهم وإلاَّ لما كان لتذييل خبرهم بحكم من يبدِّل نعم الله مناسبة وهذا مما يقصده البلغاء، فيغني مثلُه في الكلام عن ذكر جمل كثيرة إيجازًا بديعًا من إيجاز الحذف وإيجاز القصر معًا؛ لأنه يفيد مفاد أن يقال كم آتيناهم من آية بينة هي نعمة عليهم فلم يقدروها حق قدرها، فبدلوا نعمة الله بضدها بعد ظهورها فاستحقوا العقاب، لأن من يبدِّل نعمة الله فالله معاقبه، ولأنه يفيد بهذا العموم حكمًا جامعًا يشمل المقصودين وغيرَهم ممن يشبههم ولذلك يكون ذكر مثل هذا الكلام الجامع بعد حكم جزئي تقدمه في الأصل تعريضًا يشبه التصريح، ونظيره أن يحدثك أحد بحديث فتقول فعل الله بالكاذبين كذا وكذا تريد أنه قد كذب فيما حدثك وإلاّ لما كان لذلك الدعاء عند سماع ذلك الحديث موقع. اهـ..قال ابن الجوزي: وفي معنى تبديلها ثلاثة أقوال. أحدها: أنه الكفر بها، قاله أبو العالية ومجاهد.والثاني: تغيير صفة النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة. قاله أبو سليمان الدمشقي.والثالث: تعطيل حجج الله بالتأويلات الفاسدة. اهـ..قال الفخر: في نعمة الله هاهنا قولان أحدهما: أن المراد آياته ودلائله وهي من أجل أقسام نعم الله لأنها أسباب الهدى والنجاة من الضلالة، ثم على هذا القول في تبديلهم إياها وجهان فمن قال المراد بالآية البينة معجزات موسى عليه السلام، قال: المراد بتبديلها أن الله تعالى أظهرها لتكون أسباب هداهم فجعلوها أسباب ضلالاتهم كقوله: {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 125] ومن قال: المراد بالآية البينة ما في التوراة والإنجيل من دلائل نبوة محمد عليه السلام، قال: المراد من تبديلها تحريفها وإدخال الشبهة فيها.والقول الثاني: المراد بنعمة الله ما آتاهم الله من أسباب الصحة والأمن والكفاية والله تعالى هو الذي أبدل النعمة بالنقمة لما كفروا، ولكن أضاف التبديل إليهم لأنه سبب من جهتهم وهو ترك القيام بما وجب عليهم من العمل بتلك الآيات البينات. اهـ..من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ}: .قال الفخر: أما قوله تعالى: {مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ} فإن فسرنا النعمة بإيتاء الآيات والدلائل كان المراد من قوله: {مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ} أي من بعد ما تمكن من معرفتها، أو من بعد ما عرفها كقوله تعالى: {ثُمَّ يُحَرّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 75] لأنه إذا لم يتمكن من معرفتها أو لم يعرفها، فكأنها غائبة عنه، وإن فسرنا النعمة بما يتعلق بالدنيا من الصحة والأمن والكفاية، فلا شك أن عند حصول هذه الأسباب يكون الشكر أوجب فكان الكفر أقبح، فلهذا قال: {فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب}. اهـ..قال ابن عاشور: وقوله: {من بعد ما جاءته} المجيء فيه كناية عن الوضوح والمشاهدة والتمكن، لأنها من لوازم المجيء عرفًا.وإنما جعل العقاب مترتبًا على التبديل الواقع بعد هذا التمكن للدلالة على أنه تبديل عن بصيرة لا عن جهل أو غلط كقوله تعالى فيما تقدم: {ثم يحرقونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون} [البقرة: 75]. وحذف ما بدل به النعمة ليشمل جميع أحوال التبديل من كتم بعضها والإعراض عن بعض وسوء التأويل. والعقاب ناشئ عن تبديل تلك النعم في أوصافها أو في ذواتها، ولا يكون تبديلها إلاّ لقصد مخالفتها، وإلاّ لكان غير تبديل بل تأييدًا وتأويلًا، بخلاف قوله تعالى: {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرًا} [إبراهيم: 28] لأن تلك الآية لم يتقدم فيها ما يؤذن بأن النعمة ما هي ولا تؤذن بالمستبدل به هنالك فتعين التصريح بالمستبدل به، والمبدلون في تلك الآية غير المراد من المبدلين في هذه، لأن تلك في كفار قريش بدليل قوله بعدها: {وجعلوا لله أندادًا} [إبراهيم: 30]. اهـ..قال الواحدي: وفيه إضمار، والمعنى شديد العقاب له، وأقول: بين عبد القاهر النحوي في كتاب (دلائل الإعجاز) أن ترك هذا الإضمار أولى، وذلك لأن المقصود من الآية التخويف بكونه في ذاته موصوفًا بأنه شديد العقاب، من غير التفات إلى كونه شديد العقاب لهذا أو لذلك، ثم قال الواحدي رحمه الله: والعقاب عذاب يعقب الجرم. اهـ..قال ابن عاشور: وقوله: {فإن الله شديد العقاب} دليل جواب الشرط وهو علته، لأن جعل هذا الحكم العام جوابًا للشرط يعلم منه أن من ثبت له فعل الشرط يدخل في عموم هذا الجواب، فكون الله شديد العقاب أمر محقق معلوم فذِكره لم يقصد منه الفائدة لأنها معلومة بل التهديد، فعلم أن المقصود تهديد المبدِّل فدل على معنى: فالله يعاقبه، لأن الله شديد العقاب، ومعنى شدة عقابه: أنه لا يفلت الجاني وذلك لأنه القادر على العقاب، وقد جُوّز أن يكون فإن الله شديد العقاب نفسَ جواب الشرط بجعل أل في العقاب عوضًا عن الضمير المضاف إليه أي شديدُ معاقبِته.وإظهار اسم الجلالة هنا مع أن مقتضى الظاهر أن يقال: فإنه شديد العقاب، لإدخال الرَّوْع في ضمير السامع وتربية المهابة، ولتكون هذه الجملة كالكلام الجامع مستقلًا بنفسه، لأنها بمنزلة المثل أمر قد علمه الناس من قبل، والعقاب هو الجزاء المؤلم عن جناية وجرم، سمي عقابًا لأنه يعقب الجناية. اهـ..من لطائف وفوائد المفسرين: .قال أبو حيان: ذكر بعض من جمع في التفسير: أن هذه الآية: {سل بني إسرائيل} مؤخرة في التلاوة، مقدمة في المعنى، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، قال: والتقدير: فإن زللتم إلى آخر الآية: سل يا محمد بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة فما اعتبروا ولا أذعنوا إليها، هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله؟ أي: أنهم لا يؤمنون حتى يأتيهم الله. انتهى.ولا حاجة إلى ادّعاء التقديم والتأخير، بل هذه الآية على ترتبها أخذ بعضها بعنق بعض، متلاحمة التركيب، واقعة مواقعها، فالمعنى: أنهم أمروا أن يدخلوا في الإسلام، ثم أخبروا أن من زلّ جازاه الله العزيز الذي لا يغالب، الحكيم الذي يضع الأشياء مواضعها، ثم قيل: لا ينتظرون في إيمانهم إلاَّ ظهور آيات بينات، عنادًا منهم، فقد أتتهم الآيات، ثم سلَّى نبيه صلى الله عليه وسلم في استبطاء إيمانهم مع ما أتى به لهم من الآيات، بقوله: {سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة} فما آمنوا بها بل بدلوا وغيروا، ثم توعد من بدل نعمة الله بالعقاب الشديد، فأنت ترى هذه المعاني متناسقة مرتبة الترتيب المعجز، باللفظ البليغ الموجز، فدعوى التقديم والتأخير المختص بضرورة الأشعار، وبنظم ذوي الانحصار، منزه عنها كلام الواحد القهار. اهـ..فائدة في معنى تبديل النعمة: قال ابن التمجيد: وتبديل النعمة جرم بغير علم ومع العلم أشد جرما ولذلك كان وعيد العلماء المقصرين أشد من الجاهلين بالأحكام لأن الجهل قد يعذر به وان كان الاعتذار به غير مقبول في باب التكاليف. اهـ..من فوائد الشعراوي في الآية: قال رحمه الله:{سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)}.فكأن الله لم يحمل على بني إسرائيل ويريد منهم أن يقروا على أنفسهم بما أكرمهم به الله من خير سابق؛ فساعة تقول: اسأل فلانًا عما فعلته معه، كأنك لا تأمر بالسؤال إلا عن ثقة، وأنه لن يجد جوابًا إلا ما يؤيد قولك. والحق يبلغ رسوله صلى الله عليه وسلم أن يسأل بني إسرائيل عن الخير السابق الذي غمرهم به وهو سبحانه عليهم أنهم لن يستطيعوا مع لددهم أن يتكلموا إلا بما يوافق القضية التي يقولها الحق وتصبح حجة عليهم.والحق سبحانه وتعالى يقول: {سل بني إسرائيل كم آتيناهم} ساعة تسمع {كم} في مقام كهذا فافهم أنها كناية عن الإخبار عن الأمر الكثير بخلاف كم التي تريد بها الاستفهام. وأنت تقول: كم فعلت كذا مع فلان وكم صنعت معه معروفًا وكم تهاونت معه وكم أكرمته. لذلك فعندما تسمع كم هذه فاعرف أن معناها الكمية الكثيرة التي يكنى بها على أن عدد لا يحصى. {سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بنية} إن الحق يريد أن يضرب لنا مثلًا كمثل إنسان يأكل خيرك وينكر معروفك، ويشكوك إلى إنسان، فترد أنت لم ينقل لك الشكوى: سله ماذا قدمت له من جميل، أنا لن أتكلم بل سأجعله هو يتكلم. وأنت لا تقول ذلك إلا وأنت على ثقة من أنه لا يستطيع أن يغير شيئًا.ألم يفلق لهم البحر؟. ألم يجعل عصا موسى حية؟ ألم يظللهم الله بالغمام؟ ألم يعطهم الله المن والسلوى؟ كل ذلك أعطاه الله لهم؛ فلم يشكروا نعمة الله، فحل عليهم غضبه؛ أخذهم بالسنين والجوع وأخذهم بالقمل والضفادع والدم، كل ذلك فعله الله معهم.. وحين يقول الحق لرسوله: {سل بني إسرائيل} فالقول منسحب على أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا جاءك واحد منهم فاسأله: كم آية أعطاها الله لكم فأنكرتموها، وتلكأتم. وتعنتم. {كم آتيناهم من آية بينة} إن كم تدل على الكمية الكبيرة، و{من آية} معناها الأمر العجيب. و{بينة} تعني الأمر الواضح الذي لا يمكن أن يغفل عنه أحد.{سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب}. وكيف يبدل الإنسان نعمة الله؟. إن نعمة الله حين تصيب خلقًا فالواجب عليهم أن يستقبلوها بالشكران، ومعنى الشكران هو نسبتها إلى واهبها والاستحياء أن يعصوا من أنعم عليهم بها. فإذا استقبل الناس النعمة بغير ذلك فقد بدلت. ولذلك يقول الحق في آية أخرى: {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرًا} وماداموا قد بدلوها كفرًا، فيكون الكفر هو الذي جاء مكان الإيمان. إذن كان المطلوب أن يقابلوا النعمة بالإيمان، بالازدياد في التقرب إلى الله، لكنهم بدلوا النعمة بالكفر.{ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب} قد نفهم أن معنى {شديد العقاب} هو أمر يتعلق بالآخرة، ولعل أناسًا يستبطئون الآخرة، أو أناسًا غير مؤمنين بالآخرة، فلو كان الأمر بالعقاب يقتصر على عقاب الآخرة لشقي الناس بمن لا يؤمنون بالآخرة.. أو يستبطئونها لأن هؤلاء يعيثون في الأرض فسادًا؛ لأنهم لا يخافون الآخرة ولا يؤمنون بها، أو أنها لا تخطر ببالهم. فالذي يؤمن بأن هناك آخرة تأتي وسيكون فيها حساب، هو الذي سيكون سلوكه على مقتضى ذلك الإيمان. أما الذي لا يؤمن أن هناك يومًا آخر فالدنيا تشقي به. فإذا لم يعجل الله بلون من العقوبة للذين لا يؤمنون بالآخرة أو الذين يستبطئون الآخرة لشقي الناس بهؤلاء الذين لا يؤمنون أو يستبطئون.وكل جماعة لا تقبل على منهج الله، ويبدلون نعمة الله كفرًا لابد أن يكون لله فيهم عقاب عاجل، وذلك ليعلم الناس أن من لم يرتدع إيمانًا وخوفًا من اليوم الآخر فعليه أن يرتدع مخافة أن يأتيه العقاب في الدنيا. فالظالم إذا علم أن ظالمًا مثله لقي عقابه وحسابه في الدنيا فسيخاف أن يظل؛ وإن لم يكن مؤمنًا بالآخرة، لأنه سيتأكد أن الحساب واقع لا محالة. ولذلك لا يؤجل الله العقاب كله إلى الآخرة ولكن ينزل بعضا منه في الدنيا. ويقول الحق في الذين يبدلون نعمة الله كفرًا: {وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29)} سورة إبراهيم.هذه عقوبة الآخرة ولمن يتركهم الله في الدنيا دون أن ينالهم العقاب. وحتى الذين يظلمون ويتعسفون مع أنهم مسلمون لا يتركهم الله بلا عقاب في الدنيا حتى يأتيهم يوم القيامة بل لابد أن يجئ لهم من واقع دنياهم ما يخيف الناس من هذه الخواتيم حتى تستقيم حركة الحياة بين الناس جميعا، وإلا فسيكون الشقاء واقعا على الناس من هؤلاء ومن الذين لا يؤمنون بعقاب الآخرة.وكان بعض الصالحين يقول: اللهم إن القوم قد استبطأوا آخرتك وغرهم حلمك فخذهم أخذ عزيز مقتدر؛ لأنه سبحانه لو ترك عقابهم للآخرة لفسدوا وكانوا فتنة لغيرهم من المؤمنين. ولذلك شاء الله أن يجعل في منهج الإيمان تجريمًا وعقوبة تقع في الدنيا، لماذا؟ حتى لا يستشري فساد من يشك في أمر الآخرة. وشدة عقاب الله لا يجعلها في الآخرة فقط، بل جعلها في الدنيا أيضًا؛ ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)} سورة طه. اهـ.
|