الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} أَيْ: يَا قَوْمِيَ الَّذِينَ أَنَا مِنْهُمْ وَهُمْ مِنِّي، وَأُحِبُّ لَهُمْ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي، أَخْبِرُونِي عَنْ شَأْنِي وَشَأْنِكُمْ، إِنْ كُنْتُ عَلَى حُجَّةٍ وَاضِحَةٍ مِنْ رَبِّي فِيمَا دَعَوْتُكُمْ إِلَيْهِ وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ وَمَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَكَانَ وَحْيًا مِنْهُ لَا رَأْيًا مِنِّي {وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا} فِي كَثْرَتِهِ وَفِي صِفَتِهِ، وَهُوَ كَسْبُهُ بِالْحَلَالِ بِدُونِ تَطْفِيفِ مِكْيَالٍ وَلَا مِيزَانٍ، وَلَا بَخْسٍ لِحَقِّ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، فَأَنَا مُجَرِّبٌ فِي الْكَسْبِ الطَّيِّبِ وَمَا فِيهِ مِنْ خَيْرٍ وَبَرَكَةٍ، لَا فَقِيرٌ مُعْدِمٌ أَخْتَرِعُ الْآرَاءَ النَّظَرِيَّةَ فِيمَا لَيْسَ لِي خِبْرَةٌ بِهِ، أَيْ: أَرَأَيْتُمْ وَالْحَالَةُ هَذِهِ، مَاذَا أَفْعَلُ وَمَاذَا أَقُولُ لَكُمْ غَيْرَ الَّذِي قُلْتُهُ عَنْ نُبُوَّةٍ رَبَّانِيَّةٍ، وَتَجَارِبِ غِنًى مَالِيَّةٍ؟ هَلْ يَسَعُنِي الْكِتْمَانُ أَوِ التَّقْصِيرُ فِي الْبَيَانِ؟ {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} أَيْ وَإِنَّنِي عَلَى بَيِّنَتِي وَنِعْمَتِي، مَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ فِي ذَلِكَ مَائِلًا إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ مُؤْثِرًا لِنَفْسِي عَلَيْكُمْ، بَلْ أَنَا مُسْتَمْسِكٌ بِهِ قَبْلَكُمْ. وَأَصْلُ الْمُخَالَفَةِ أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ طَرِيقًا غَيْرَ طَرِيقِ الْآخَرِ فِي قَوْلِهِ، أَوْ فِعْلِهِ أَوْ حَالِهِ، وَأَنْ يُقَالَ: خَالَفَهُ فِي الشَّيْءِ، فَإِذَا خَالَفَهُ فِيمَا هُوَ مُوَلٍّ عَنْهُ تَارِكٌ لَهُ قِيلَ: خَالَفَهُ إِلَيْهِ، وَإِذَا خَالَفَهُ فِيمَا هُوَ مُقْبِلٌ عَلَيْهِ، قِيلَ: خَالَفَهُ عَنْهُ، وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا تَضْمِينُ الْفِعْلِ مَعْنَى الْمَيْلِ إِلَيْهِ أَوْ عَنْهُ، أَوِ الرَّغْبَةُ فِيهِ أَوْ عَنْهُ. وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [24: 63] أَيْ: يُخَالِفُونَ الرَّسُولَ رَاغِبِينَ عَنْ أَمْرِهِ مَائِلِينَ عَنْهُ {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} أَيْ: مَا أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ الْعَامَّ فِيمَا آمُرُ بِهِ وَفِيمَا أَنْهَى عَنْهُ مَادُمْتُ أَسْتَطِيعُهُ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ، لَيْسَ لِي هَوًى وَلَا مَنْفَعَةٌ شَخْصِيَّةٌ خَاصَّةٌ بِي فِيهِمَا، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا فَعَلْتُهُ. قَالَ الْقَاضِي الْبَيْضَاوِيُّ: وَلِهَذِهِ الْأَجْوِبَةِ الثَّلَاثَةِ عَلَى هَذَا النَّسَقِ شَأْنٌ، وَهُوَ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الْعَاقِلَ يَجِبُ أَنْ يُرَاعِيَ فِي كُلِّ مَا يَأْتِيهِ وَيَذَرُهُ أَحَدَ حُقُوقٍ ثَلَاثَةٍ- أَهَمُّهَا وَأَعْلَاهَا حَقُّ اللهِ- تَعَالَى-، وَثَانِيهَا حَقُّ النَّفْسِ، وَثَالِثُهَا حَقُّ النَّاسِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ آمُرَكُمْ بِمَا أَمَرْتُكُمْ وَأَنْهَاكُمْ عَمَّا نَهَيْتُكُمْ. و«ما» مَصْدَرِيَّةٌ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الظَّرْفِ، وَقِيلَ: خَبَرِيَّةٌ بَدَلٌ مِنَ الْإِصْلَاحِ، أَيِ الْمِقْدَارُ الَّذِي اسْتَطَعْتُهُ أَوْ إِصْلَاحُ مَا اسْتَطَعْتُهُ فَحُذِفَ الْمُضَافُ. انْتَهَى. وَفِي هَذَا إِثْبَاتٌ لِعَقْلِهِ وَرَوِيَّتِهِ وَلِرُشْدِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَهُوَ إِبْطَالٌ لِتَهَكُّمِهِمْ وَاسْتِهْزَائِهِمْ بِلَقَبِ الْحَلِيمِ الرَّشِيدِ، وَالنَّبِيُّ فَوْقَ ذَلِكَ- وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ- التَّوْفِيقُ ضِدُّ الْخِذْلَانِ، وَهُوَ الْفَوْزُ وَالْفَلَاحُ فِي إِصَابَةِ الْإِصْلَاحِ وَكُلُّ عَمَلٍ صَالِحٍ وَسَعْيٍ حَسَنٍ، فَإِنَّ حُصُولَهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى التَّوْفِيقِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا كَسْبُ الْعَامِلِ وَطَلَبُهُ الشَّيْءَ مِنْ طَرِيقِهِ، وَثَانِيهُمَا مُوَافَقَةُ الْأَسْبَابِ الْكَوْنِيَّةِ وَالْخَارِجِيَّةِ الَّتِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا النَّجَاحُ فِي كَسْبِهِ وَسَعْيِهِ، وَتَسْخِيرُهَا إِنَّمَا يَكُونُ مِنَ اللهِ وَحْدَهُ. وَالْمَعْنَى: وَمَا تَوْفِيقِي لِإِصَابَةِ ذَلِكَ فِيمَا أَسْتَطِيعُهُ مِنْهُ إِلَّا بِحَوْلِ اللهِ وَقُوَّتِهِ، وَفَضْلِهِ وَمَعُونَتِهِ، وَأَعْلَاهَا مَا خَصَّنِي بِهِ دُونَكُمْ مِنْ نُبُوَّتِهِ وَرِسَالَتِهِ {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} فِي أَدَاءِ مَا كَلَّفَنِي مِنْ تَبْلِيغِكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ، لَا عَلَى حَوْلِي وَقُوَّتِي {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} أَيْ وَإِلَيْهِ وَحْدَهُ أَرْجِعُ فِي كُلِّ مَا نَابَنِي مِنَ الْأُمُورِ فِي الدُّنْيَا، وَإِلَى الْجَزَاءِ عَلَى أَعْمَالِي فِي الْآخِرَةِ، فَأَنَا لَا أَرْجُو مِنْكُمْ أَجْرًا، وَلَا أَخَافُ مِنْكُمْ ضَرًّا.{وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ} وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ {يَجْرِمَنَّكُمْ} بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ مِنْ جُرْمِ الذَّنَبِ وَالْمَالِ بِمَعْنَى كَسْبِهِ، وَابْنُ كَثِيرٍ بِضَمِّهَا مِنْ أَجْرَمَتْهُ الذَّنْبُ إِذَا جَعَلَتْهُ جَارِمًا لَهُ. فَجَرَمَهُ وَأَجْرَمَهُ كَكَسِبَهُ هُوَ وَكَسَّبَهُ إِيَّاهُ غَيْرُهُ، يَتَعَدَّى الثُّلَاثِيُّ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا بِنَفْسِهِ إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ وَإِلَى مَفْعُولَيْنِ كَالرُّبَاعِيِّ.وَالشِّقَاقُ: شِدَّةُ الْخِلَافِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ أَحَدُ الْمُخْتَلِفَيْنِ فِي شِقٍّ وَجَانِبٍ غَيْرِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْآخَرُ، أَيْ لَا تَحْمِلَنَّكُمْ وَتَكْسِبَنَّكُمْ مُشَاقَّتُكُمْ وَعَدَاوَتُكُمْ لِي أَنْ تُفْضِيَ بِالْإِصْرَارِ عَلَيْهَا إِلَى إِصَابَتِكُمْ بِمِثْلِ مَا أَصَابَ مُكَذِّبِي الرُّسُلِ قَبْلَكُمْ: قَوْمَ نُوحٍ أَوْ هُودٍ أَوْ صَالِحٍ مِنْ عَذَابِ الْخِزْيِ وَالِاسْتِئْصَالِ {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} زَمَانًا وَلَا مَكَانًا وَلَا إِجْرَامًا، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَسْتَوِيَ فِي: بَعِيدٍ، وَقَرِيبٍ، وَقَلِيلٍ، وَكَثِيرٍ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ لِوُرُودِهَا عَلَى وَزْنِ الْمَصَادِرِ كَالصَّهِيلِ وَالشَّهِيقِ وَنَحْوِهِمَا. وَقُدِّرَ لِبَعِيدٍ قَبْلَ ذَلِكَ مَوْصُوفًا: بِشَيْءٍ بَعِيدٍ، وَقَدَّرَ غَيْرُهُ: وَمَا إِهْلَاكُ قَوْمِ لُوطٍ. إِلَخْ، وَيُقَاسُ عَلَيْهِ مِثْلُهُ.{وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} أَيِ اطْلُبُوا مِنْهُ الْمَغْفِرَةَ لِمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي بِتَرْكِهِمَا، ثُمَّ تَتُوبُوا إِلَيْهِ كُلَّمَا وَقَعَ مِنْكُمْ مَعْصِيَةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا غَيْرَ مَرَّةٍ {إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} هَذَا تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهُ، أَيْ: عَظِيمُ الرَّحْمَةِ لِلْمُسْتَغْفِرِينَ التَّائِبِينَ بِمَغْفِرَتِهِ وَعَفْوِهِ، كَثِيرُ الْمَوَدَّةِ لَهُمْ بِإِحْسَانِهِ وَنِعَمِهِ، وَالْمَوَدَّةُ فِي اللُّغَةِ عَطْفُ الصِّلَةِ وَالْإِكْرَامُ بِالْفِعْلِ كَمَا يُعْلَمُ مِنَ اسْتِعْمَالِهَا، وَتَسَاهَلَ أَوْ غَلَطَ مَنْ فَسَّرَهَا بِالْمَحَبَّةِ، وَهَذَا وَعْدٌ قُفِّيَ بِهِ عَلَى الْوَعِيدِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَتَرَكَ لَهُمُ الْخِيَارَ فِيمَا يُرَجِّحُونَهُ مِنْهُمَا بَعْدَ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَالْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّدَمَ عَلَى فِعْلِ الْفَسَادِ وَالظُّلْمِ بِالتَّوْبَةِ وَاسْتِغْفَارِ الرَّبِّ تَعَالَى مِنْ أَسْبَابِ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ مُكَرَّرًا فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَكَذَلِكَ يَقْتَضِيَانِ فِعْلَ الْعَدْلِ وَالصَّلَاحِ اللَّذَيْنِ هُمَا سَبَبُ الْعُمْرَانِ وَالْخَيْرِ فِي الدُّنْيَا، وَمَغْفِرَةِ اللهِ وَمَثُوُبَتِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَقَدْ عَبَّرَ عَنْهُمَا هُنَا بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِمَا مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى وَهِيَ الرَّحْمَةُ وَالْمَوَدَّةُ، وَارْجِعْ إِلَى مَا عَبَّرَ بِهِ عَنْ فَائِدَةِ الِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ و52 و61 وَتَأَمَّلْ هَذِهِ الْبَلَاغَةَ وَالتَّفَنُّنَ فِي بَيَانِ الْمَعْنَى الْوَاحِدِ.{قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَاقَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)}.هَذِهِ الْآيَاتُ الْخَمْسُ فِي بَيَانِ تَحَوُّلِ قَوْمِ شُعَيْبٍ عَنْ مُجَادَلَتِهِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَى الْإِهَانَةِ وَالتَّهْدِيدِ، وَمُقَابَلَتِهِ إِيَّاهُمْ بِالْإِنْذَارِ بِقُرْبِ الْوَعِيدِ، وَنُزُولِ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ، وَوُقُوعِ ذَلِكَ بِالْفِعْلِ الْعَتِيدِ.{قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} حَقَّقْنَا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ (7: 179) أَنَّ الْفِقْهَ فِي اللُّغَةِ أَخَصُّ مِنَ الْفَهْمِ وَالْعِلْمِ، وَهُوَ الْفَهْمُ الدَّقِيقُ الْعَمِيقُ الْمُؤَثِّرُ فِي النَّفْسِ الْبَاعِثُ عَلَى الْعَمَلِ، أَيْ: مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَرْمِي مِمَّا وَرَاءَ ظَوَاهِرِ أَقْوَالِكَ مِنْ بَوَاطِنِهَا وَتَأْوِيلِهَا؛ كَبُطْلَانِ عِبَادَةِ آلِهَتِنَا وَقُبْحِ حَرِيَّةِ التَّصَرُّفِ فِي أَمْوَالِنَا، وَعَذَابٍ مُحِيطٍ يُبِيدُنَا، وَإِصَابَتِنَا بِمِثْلِ الْأَحْدَاثِ الْجَوِّيَّةِ الَّتِي نَزَلَتْ بِمَنْ قَبْلَنَا، كَأَنَّ أَمْرَهَا بِيَدِكَ وَتَصَرُّفِكَ أَوْ تَصَرُّفِ رَبِّكَ، يُصِيبُ بِهَا مَنْ تَشَاءُ أَوْ يَشَاءُ لِأَجْلِكَ، {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا} لَا حَوْلَ لَكَ وَلَا قُوَّةَ تَمْتَنِعُ بِهَا مِنَّا إِنْ أَرَدْنَا أَنْ نَبْطِشَ بِكَ، وَأَنْتَ عَلَى ضَعْفِكَ تُنْذِرُنَا الْعَذَابَ الْمُحِيطَ الَّذِي لَا يَفْلِتُ مِنْهُ أَحَدٌ {وَلَوْلَا رَهْطُكَ} أَيْ: عَشِيرَتُكَ الْأَقْرَبُونَ وَالرَّهْطُ: الْجَمَاعَةُ مِنَ الثَّلَاثَةِ إِلَى السَّبْعَةِ أَوِ الْعَشَرَةِ {لَرَجَمْنَاكَ} لَقَتَلْنَاكَ شَرَّ قِتْلَةٍ، وَهِيَ الرَّمْيُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى تُدْفَنَ فِيهَا {وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} أَيْ بِذِي عِزَّةٍ وَمَنَعَةٍ عَلَيْنَا تَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ رَجْمِكَ، وَإِنَّمَا نُعِزُّ رَهْطَكَ وَنُكْرِمُهُمْ عَلَى قِلَّتِهِمْ لِأَنَّهُمْ مِنَّا وَعَلَى دِينِنَا الَّذِي نَبَذْتَهُ وَرَاءَ ظَهْرِكَ، وَأَهَنْتَهُ وَدَعَوْتَنَا إِلَى تَرْكِهِ لِبُطْلَانِهِ وَفَسَادِهِ فِي زَعْمِكَ.{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ} هَذَا اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ، أَيْ: أَرَهْطِي أَعَزُّ وَأَكْرَمُ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ الَّذِي أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ بِأَمْرِهِ {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا} أَيْ أَشْرَكْتُمْ بِهِ وَجَعَلْتُمُوهُ كَالشَّيْءِ اللَّقَّا الَّذِي يُنْبَذُ وَرَاءَ الظَّهْرِ لِهَوَانِهِ عَلَى نَابِذِهِ وَعَدَمِ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ، فَيُنْسَى حَتَّى لَا يُحْسَبَ لَهُ حِسَابٌ. تَقُولُ الْعَرَبُ: جَعَلَهُ بِظَهْرٍ وَظِهْرِيًّا وَاتَّخَذَهُ ظِهْرِيًّا بِالْكَسْرِ وَالتَّشْدِيدِ، أَيْ نَسْيًا مَنْسِيًّا لَا يُذْكَرُ كَأَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ، وَكَسْرُ الظَّاءِ مِنْ تَصَرُّفِهِمْ فِي النَّسَبِ، وَكَانَ الْقَوْمُ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَيُشْرِكُونَ بِهِ، وَلَا عَجَبَ مِنْ حَالِهِمْ هَذِهِ فَإِنَّهُ شَأْنُ أَكْثَرِ النَّاسِ الْيَوْمَ، لَا يُرَاقِبُونَ اللهَ فِي أَقْوَالِهِمْ وَلَا فِي أَعْمَالِهِمْ فَيَرْجُوهُ إِذَا أَحْسَنُوا، وَيَخَافُوهُ إِذَا أَسَاءُوا، أَوْ فَيَمْتَنِعُوا عَنِ الْإِسَاءَةِ وَيَتَسَابَقُوا إِلَى الْإِحْسَانِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ {إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} عِلْمًا فَهُوَ يُحْصِيهِ عَلَيْكُمْ وَيَجْزِيكُمْ بِهِ، وَأَمَّا رَهْطِي فَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا.{وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} هَذَا أَمْرُ تَهْدِيدٍ وَوَعِيدٍ مِنْ وَاثِقٍ بِقُوَّتِهِ بِرَبِّهِ، عَلَى انْفِرَادِهِ فِي شَخْصِهِ، وَضَعْفِ قَوْمِهِ عَلَى كَثْرَتِهِمْ، وَإِدْلَالِهِمْ عَلَيْهِ وَتَهْدِيدِهِمْ لَهُ بِقُوَّتِهِمْ، أَيِ اعْمَلُوا مَا اسْتَطَعْتُمْ عَلَى مُنْتَهَى تَمَكُّنِكُمْ فِي قُوَّتِكُمْ وَعَصَبِيَّتِكُمْ (مِنْ مَكُنَ مَكَانَةً كَضَخُمَ ضَخَامَةً- إِذَا تَمَكَّنَ كُلَّ التَّمَكُّنِ مِمَّا هُوَ فِيهِ وَبِصَدَدِهِ) أَوَ عَلَى مَكَانِكُمُ الَّذِي أَنْتُمْ فِيهِ، إِذْ يُقَالُ: مَكَانٌ وَمَكَانَةٌ (كَمَقَامٍ وَمَقَامَةٍ) {إِنِّي عَامِلٌ} عَلَى مَكَانَتِي الَّتِي أَعْطَانِيهَا أَوْ وَهَبَنِيهَا رَبِّي مِنْ دَعْوَتِكُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ وَأَمْرِكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيِكُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ {سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ} هَذَا تَصْرِيحٌ بِالْوَعِيدِ بَعْدَ التَّلْمِيحِ لَهُ بِالْأَمْرِ بِالْعَمَلِ الْمُسْتَطَاعِ لِلتَّعْجِيزِ، وَهُوَ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ؛ وَلِذَلِكَ لَمْ يُقْرَنْ بِالْفَاءِ كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} 6: 135 إِذِ الْمُرَادُ هُنَالِكَ أَنَّ مَا قَبْلَ {سَوْفَ} سَبَبٌ لِمَا بَعْدَهَا، وَقَطْعُهَا هُنَا أَشَدُّ مُبَالَغَةً فِي الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ؛ لِاقْتِضَاءِ تَهْدِيدِ الْكَفَّارِ إِيَّاهُ بِالرَّجْمِ، أَنْ يُبَالِغَ فِي تَهْدِيدِهِمْ وَإِظْهَارِ عَزَّةِ اللهِ وَرَسُولِهِ بِالْحَقِّ.وَتَقْدِيرُهُمَا: فَإِنْ قُلْتُمْ: مَاذَا يَكُونُ مِنْ أَمْرِكَ؟ أَقُلْ لَكُمْ: {سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} وَيُذِلُّهُ. أَنَا أَمْ أَنْتُمْ، {وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ} فِي قَوْلِهِ وَمَنْ هُوَ صَادِقٌ مِنِّي وَمِنْكُمْ؟ وَقَدْ كَانُوا أَنْذَرُوهُ غَيْرَ الرَّجْمِ الَّذِي وُجِدَ الْمَانِعُ مِنْهُ: أَنْذَرُوهُ إِنْذَارًا مُؤَكَّدًا بِالْقَسَمِ مَا حَكَاهُ اللهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} 7: 88 إِلَخْ. فَهُوَ يُعَرِّضُ بِكَذِبِهِمْ فِي كُلِّ مَا صَدَرَ عَنْهُمْ مِمَّا حَكَاهُ اللهُ عَنْهُمْ هُنَا وَهُنَاكَ، مُوقِنًا بِوُقُوعِ مَا أَنْذَرَهُمْ بِهِ، وَهُوَ بُرْهَانٌ عَلَى أَنَّهُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنَ اللهِ بِهِ {وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ} وَانْتَظِرُوا مُرَاقِبِينَ لِمَا سَيَقَعُ إِنِّي مَعَكُمْ مُرَاقِبٌ مُنْتَظِرٌ لَهُ، رَقِيبٌ هُنَا بِمَعْنَى مُرَاقِبٍ، كَعَشِيرٍ بِمَعْنَى مُعَاشِرٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى فَاعِلٍ.{وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا} بِعَذَابِهِمُ الَّذِي أَنْذَرُوهُ {نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا} خَاصَّةً بِهِمْ دُونَ أَحَدٍ مِنَ الْقَوْمِ كَمَا تَقَدَّمَ مِثْلُهُ قَرِيبًا {وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} أَيْ أَخَذَتْهُمْ صَيْحَةُ الْعَذَابِ الَّتِي أَخَذَتْ ثَمُودَ فَأَصْبَحُوا كُلُّهُمْ مَيِّتِينَ بَارِكِينَ عَلَى رُكَبِهِمْ، مُكَبِّينَ عَلَى وُجُوهِهِمْ فِي دِيَارِهِمْ.{كَأَنْ لَمْ يَغْنُوا فِيهَا} أَيْ كَأَنَّهُمْ لَمْ يُقِيمُوا فِيهَا وَقْتًا مِنَ الْأَوْقَاتِ {أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} أَيْ هَلَاكًا لَهُمْ وَبُعْدًا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ كَبُعْدِ الْهَلَاكِ وَاللَّعْنَةِ الَّتِي عُوقِبَتْ بِهَا ثَمُودُ مِنْ قَبْلِهِمْ فَإِنَّهُمَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الصَّيْحَةُ كَمَا فِي الْآيَةِ 67 وَسَيَأْتِي مِثْلُهُ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ، أَوَّلًا: فِي قَوْمِ لُوطٍ (15: 73) وَذَكَرْنَاهُ فِي قِصَّتِهِمْ هُنَا، وَثَانِيًا: فِي أَصْحَابِ الْحِجْرِ وَهُوَ ثَمُودُ {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ} 15: 83 وَكَذَا فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ بِدُونِ تَصْرِيحٍ بِاسْمِهِمْ: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ} 23: 41 وَفِي سُورَةِ الْقَمَرِ: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} 54: 31 وَتَقَدَّمَ فِي عَذَابِ ثَمُودَ وَمَدْيَنَ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ أَنَّهُمْ {أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} كَمَا فِي آيَتَيْ (7: 78 و91) وَمِثْلُهُمَا آيَةٌ (155) فِي السَّبْعِينَ الْمُخْتَارِينَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى، وَسَيَأْتِي أَيْضًا فِي مَدْيَنَ مِنْ سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ: {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} 29: 37 إِلَخْ. وَفِي سُورَةِ فُصِّلَتْ: حم السَّجْدَةِ فِي ثَمُودَ: {فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} 41: 17 وَفِي سُورَةِ الذَّارِيَاتِ: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} 51: 44 فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّيْحَةِ صَوْتُ الصَّاعِقَةِ، وَفِي (2: 55 و4: 153) أَنَّ الصَّاعِقَةَ أَخَذَتْ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ قَالُوا لِمُوسَى: {أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً}، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى أَحْيَاهُمْ عَقِبَهَا: وَالرَّجْفَةُ: هِيَ الْهِزَّةُ وَالِاضْطِرَابَةُ الشَّدِيدَةُ، وَهِيَ تَصْدُقُ بِاضْطِرَابِ أَبْدَانِهِمْ وَأَفْئِدَتِهِمْ كَأَرْضِهِمْ، فَالْجَامِعُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَرْسَلَ عَلَى كُلٍّ مِنْ ثَمُودَ وَمَدْيَنَ صَاعِقَةً ذَاتَ صَوْتٍ شَدِيدٍ؛ فَرُجِفُوا أَوْ رُجِفَتْ أَرْضُهُمْ وَزُلْزِلَتْ مِنْ شِدَّتِهَا وَخَرُّوا مَيِّتِينَ، فَكَانَتْ صَاعِقَتُهُمْ أَشَدَّ مِنْ صَاعِقَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ تَرْبِيَةٌ لِقَوْمِ نَبِيٍّ فِي حَضْرَتِهِ، وَتِلْكَ صَاعِقَةٌ كَانَتْ عَذَابَ خِزْيٍ وَهَوَانٍ لِمُشْرِكِينَ ظَالِمِينَ مُعَانِدِينَ أَنْجَى اللهُ نَبِيَّ كُلٍّ مِنْهُمْ وَمُؤْمِنِيهِمْ قَبْلَهَا، وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الصَّيْحَةَ الَّتِي أَخَذَتْ ثَمُودَ وَمَدْيَنَ كَانَتْ صَيْحَةً مِنْ جِبْرِيلَ عليه السلام، فَهُوَ مِنْ أَخْبَارِ الْغَيْبِ الَّتِي لَا تُقْبَلُ إِلَّا مِنْ نُصُوصِ الْوَحْيِ وَلَا نَصَّ، فَتَعَيَّنَ أَنَّهُ مِنَ الرَّجْمِ بِالْغَيْبِ.وَقَدْ بَيَّنَّا أَسْبَابَ الصَّوَاعِقِ مِرَارًا آخِرُهَا فِي تَحْقِيقِ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي هَلَاكِ ثَمُودَ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ.وَمِنْ دَقِيقِ نُكَتِ الْبَلَاغَةِ فِي الْآيَاتِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي إِهْلَاكِ مَدْيَنَ هُنَا: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا} إِلَخْ. فَعَطَفَ لَمَّا عَلَى مَا قَبْلَهَا بِالْوَاوِ، وَمِثْلُهُ فِي قَوْمِ هُودٍ، وَلَكِنَّهُ عَطَفَهَا بِالْفَاءِ فِي قِصَّةِ ثَمُودَ (66) وَقِصَّةِ قَوْمِ لُوطٍ. وَوَجْهُ هَذَا الْأَخِيرِ أَنَّ الْآيَتَيْنِ جَاءَتَا عَقِبَ الْإِنْذَارِ بِالْعَذَابِ وَاسْتِحْقَاقِهِ وَحُلُولِ مَوْعِدِهِ فَعُطِفَتَا بِالْفَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّعْقِيبِ. وَأَمَّا عَطْفُ مِثْلِهِمَا فِي قَوْمِ هُودٍ وَقَوْمِ شُعَيْبٍ فَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَعُطِفَ بِالْوَاوِ عَلَى الْأَصْلِ فِي الْعَطْفِ الْمُطْلَقِ.أَمَّا الْأَوَّلُ فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ قَبْلَ الْآيَةِ وَعِيدٌ بِالْعَذَابِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَفِيهِ وَعِيدٌ مُسَوَّفٌ فِيهِ مَقْرُونٌ بِالِارْتِقَابِ لَا الِاقْتِرَابُ، فَلَا يُنَاسِبُ الْعَطْفَ عَلَيْهِ الْفَاءُ الَّتِي تُفِيدُ التَّعْقِيبَ بِدُونِ انْفِصَالٍ، فَهَلْ تُصَادِفُ مِثْلَ هَذِهِ الدَّقَائِقِ اللُّغَوِيَّةِ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ؟.
|